هذا عراقكم.. وهذا عراقي!
هذا عراقكم، مليء باليأسِ والقنوط والخشية من الغد، عراقُ الخزائن المشرعة والكنوز التائهة، موائد اللذة وأوراق المال، صفقات بيع الأرض والعرض والشرف والغيرة مقابل بعض العجلات والسقوف المزركشة بلا ذوق..
أما عراقي، فهو زلزالُ الأرضِ كي تلد ولادتها الأولى، وروقانُ أول مائها العذب، وطينُ استقامتها الأولى واعتدالها الأزلي، حتى تفتقت طيوراً ورياحين، وحين بلغت الحلم، نبت لها النخيلُ كآيةٍ على انتهاء المخاض..
هذا عراقكم، عراق الحواجز الكونكريتية والاستجارة بعصابات القتلة وفوهات البنادق المأجورة، عراق المنطقة الخضراء الخانقة، بشوارعها المليئة بالعساكر المدججين، وكاميرات المراقبة المرهقة من النظر ساعةً بعد ساعة، وشهراً بعد شهر..
أما عراقي، فهو الأرحب باتساعه الشاسع، الرمادي الجبال الشاهقة، الأخضر السهول والتلال، الأزرق الأنهار والبحيرات، الأصفر الصحاري والبيد، حيثما سرت رجلي فذلك هو عراقي، تحت أي سماءٍ صدحت بها الصقور إلى جانب الزرازير، وفوق أي عشبٍ جالت به خرفانُ راعٍ إلى جانب الأرانبِ والكلاب، مرحةً حيةً مباركة..
عراقكم هو عراقُ دخان الغرف المظلمة وكؤوس المشروب الفاخر باسمه والقذر بمجالسه، عراقُ غرف الغواني الرخيصات اللاتي تستوردوهن لتتزوجوهن، عراقُ الخشيةَ من أن تنسرب منكم كلمةً فيستخدمها جلسائكم وندمائكم ضدكم على حين غرة، حتى لتخشون أن تسكروا فتنساب منكم الكلمات بلا وعيٍ أو عقل..
أما عراقي، فهو نسمةٌ شتويةٌ فجراً على جسر الأحرار، وفتاتٌ أرمي بها من فوقه لتتلقفها النوارسُ وتطمع بالمزيد، هو رائحة ترابٍ في زقاقٍ ببغداد القديمة رشهُ مسنٌ عصراً ليستريح فيه، فينجمع حوله جيرانه ليلعبوا معه ألعاب المسنين، وعلى طاولة اللعب، تتعالى القهقهات وتندلق الكلمات بلا خشيةٍ ولاحذر، فالنديمُ سرُ النديم..
عراقكم هو عراقُ القلوب الواجفة والصدور المترنحة لسوء الأخبار والطوالع، عراقُ الخشية من أن تُبتزون أو توبخون من أسيادٍ لكم تعرفونهم، عراقُ البدلات التي ترتدونها طيلة اليوم وأنتم تقفزون بمصفحاتكم من بيتٍ لآخر، حيثُ لا دعة ولاراحة، طالما حسابكم البنكي لايتناقص!
أما عراقي، فهو عراق عصرونيةٍ بدشداشةٍ فضفاضةٍ بيضاء مريحة، أتجولُ بها في حديقة بيتي الزاهية، بين قداحةٍ وجورية، وتحت نخلةٍ أو سدرة، فأسقي عشبةً هنا وأقلمُ نبتةً هناك، وليس بيني وبين جاري إلا سياجٌ يسمعني وأسمعه من خلاله!
عراقكم جدرانٌ حامية، وصفقاتٌ مشبوهة، ومساوماتٌ باطلة، وألعابٌ قذرة، ووجوهٌ أعياها الخوف والريبة والشك، ورعب الخيانة وهلع الثورات..
أما عراقي، فمزمارٌ بيد راع، ودلةٌ على مجمرةِ بدوي، وقدحُ شايٍ في شارعٍ عريق، وصبيةٌ يتراكضون وراء طيارةٍ ورقية في زقاقٍ خيمت عليه الشناشيل، ومعيديٌ عائدٌ مع جواميسهِ ظهراً ليتناول مسموطته غداءً طيباً حلالاً مما كسبته يداه!
عراقكم يموتُ بفقدان مناصبكم، فتهرولون حينئذٍ إلى من يؤيكم من دول العالم، مطاردين باللعنة والبصاق والشتائم، فقد انفض عنكم الحرس بانفضاض سلطتكم، ولم يعد يعصمكم من غضب الناس عاصم..
أما عراقي فهو حيٌ لايموت، يرثهُ أبنائي وأحفادي من بعدي، ويتجولون فيه كيما شاؤوا، يخيمون هنا ويستجمّون هناك، يضحكون هنا ويقهقهون هناك، كل الأزقة أزقتهم، كل الجسور، كل الشلالات والجبال والبراري والكهوف، كله لهم، لنسلي ونسلُ نسلي، حتى تستحيل الشمسُ إلى رماد..
هذا عراقي..
وهذا عراقكم..
#رسلي_المالكي
1 تعليق
-
Comment Link
الإثنين, 10 كانون2/يناير 2022 22:38
posted by شيرين الصفار
عِراقُكَ يطرُق أبواب الأخر بذعر كما لو أنهما ينتميان للغتين مختلفتين. فماذا يمكن أن يرى المرء خلف كل هذا الغبار الذي يحيط ببلاد كانت تمثل جنات متخيلة وهي اليوم مجرد حطام؟
فعراقنا يقيم في مكان آخر. مكان تجتمع فيه صفاته النبيلة وقيمه الحضارية وكرمه الجمالي.
وستنجلي الصورة حتما وسيشرق وجه العراق وضاحا مثلما نعرفه.
رُسُلِي ،، بمُجردِ وصفكَ عراقُكَ قد شعت عيوني بالأمل فنحن نعيش في عراقٍ غير عراقهم
وصفت فأجدتَ مُبهرٌ انت
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.