بغداد واسطنبول، غابتا المنائر والتاريخ
وأنت تسيرُ في الجانب الأوربي من اسطنبول، تجد القباب العثمانية المبنية من الحجر، تعلوها المآذن المخروطية العالية، اربعٌ أو ستٌ أو ثمان مآذن تبعاً لحجم ومكانة المسجد، لغة الناس هناك تختلف جداً عن أي لغةٍ تألفها أذناك، تشعرُ وكأنها مزيجٌ من عدة لغات لا تعرفها، ورغم إن قدح الشاي الذي يقدمهُ لك صاحب المقهى يتشابه بالشكل مع أقداح شاينا، رغم أن طعمه سئٌ للغاية، ورغم المآذن والمسحة الإسلامية الواضحة في تلك المدينة، لكن الشعور بأنها قطعةٌ من مدينة أوربية يبقى هو الغالب، لولا بعض التفاصيل..
ففي غمرة شعورك بأنك تسيرُ على ترابٍ أوربي، يباغتك فجأةً أذانُ جامعٍ قريب، فيعيدُ بك الحنينُ إلى الشرق، الحنينُ إلى وطنٍ تكبيراتهُ لا تدعوكَ فقط للصلاة، بل للاحتياطِ من غزوٍ أو كارثةٍ أو ظاهرةٍ طبيعية مخيفةٍ، أو حتى إلى رفع العلم، تطربُ مسامعك لتلك الكلمات، فهي الوميضُ العربي الوحيد وسط اللغة التركية الهائجة الغريبة..
العبارات العربية في الأذان تعيدك جراً إلى بلادك العربية، وتصيح باذنك أن أجداداً لك مروا من هنا، وعندما رحلوا، إعتزت البلاد التي كانوا بها بما تركوه، وهو بالطبع ليس الأذان فحسب، الصلاة هناك بالعربية، الدعاء بالعربية، التسابيح، حتى السلام بالعربية، السلام عليكم يقولونها بعينٍ مخففة، إذ تبدو عيننا قويةً على ألسنة الاخرين، وعميقةً كعمقها في كلمة عميق..
عندما تسمع المآذنَ تصدحُ بلغتك ولغة أجدادك، تتلاشى من أمامك كل صور أوربا الماثلة في تصميم وجدران تلك المدينة، كأن رياحاً عصفت ببقايا رمادٍ على طاولة، ويحل الشعور بالإرث محل الحداثةِ و الغربنة..
إسطنبول هذه، كانت مدينةً من مدنٍ عديدةٍ شملتها الدولتان العربيتان الأموية والعباسية، مدنٌ فحسب، فكيف كانت عواصم هذ الدولة في حينها؟
كيف كانت دمشق، وكيف كانت بغداد؟
ولأنني عراقي ودم العراق يسري في عروقي مخالطاً مياه دجلة والفرات، فلكما سرت في اسطنبول طفت إلى خيالي تصوراتٌ عن مدينتي، بغداد، كيف كانت؟ كيف كانت وجوه الناس السائرين في شوارعها وأزقتها؟ حين كانت عاصمة العالم في حينها؟
هل كانوا يشعرون بالفخر الحقيقي لأن مدينتهم تحكم الدنيا؟
كيف كانت قبابها؟ كيف كانت مساجدها؟ كيف كانت مدارسها ومكتباتها وقصورها وبيوتها بل وحتى قبورها؟
ماذا بقي لنا من مجدٍ ضاع قبل 800 سنة فقط؟
أضاعه الأسلاف ليديم إضاعته الاخلاف، ويمزقوا المدينة بتكتلات وفق العرق والطائفة هنا وهناك، هذا حي شيعي وذاك آخر سني، هذا يسمونه حي الأكراد وذلك يسمى شارع البو فلان، وهو إسم عشيرة، نعم، هذه بغداد اليوم..
أعود لاسطنبول، المدينة التي تشعر كأنها صخرةٌ تركها التاريخ قائمةً بوجه مد البحار المتلاطمة عليها من ثلاث جهات، كلما سرت فيها تذكرت سليمان القانوني، حين كان يحكم الأمم ويهدد دول الجوار في عقر دارها ويطارد الامبراطوريات القريبة وفلولها، وسُئل عن مملكته المترامية الأطراف ولم يكن قد وصل بغداد حينذاك، قال لهم:
إمبراطوريةٌ ليست فيها بغداد لا تعادل شيئاً..
بغداد اليوم تركها التاريخ ساردةً قصتها ككتاب مفتوح، وهي تروي تلك القصة لزوارها كأنها حكاية من ألف ليلةٍ وليلة، فريثما تنزل من الطائرة في مطارها الدولي وتتجه إلى مركز المدينة، ستصادفك أولاً ساعةُ بغداد، لتقول لك إن الزمن الذي مر من هنا طويلٌ للغاية، وهو ملئٌ بالتاريخ والدروس والسراء والضراء، العمران والازدهار، والنكسات والاحتلالات، ديناميكية مدينةٍ لا تشيخ ولا تموت على مر التاريخ..
ثم وبعد ساعة بغداد، وأنت تسير على الطريق ذاته، ترفع بغداد سيوفها امامك إلى السماء في قوس نصرها المهيب، لتقول لك بأنها لم تخلق لتغمد اسيافها، لا لأنها معتديةٌ دائماً، بل لأن اعدائها لم يغمدوا سيوفهم بوجهها مدى الدهر، لذا كان لزاماً عليها ان تسل سيوفها على هيئة نصبٍ تذكاري..
ثم وانت مستمر بالتوجه إلى مركز المدينة، سترى قبة الجندي المجهول، لتحكي لك قصة أولئك الذي رفعوا السيوف وقاتلوا دفاعا عنها، لكنهم عادوا امواتاً احياء، مجهولو الاسم والهوية...
أخيراً، تصل إلى القصر الجمهوري، حيث مركز المدينة يقول لك، لقد وصلت، من هنا تحكم بلاد الرافدين المترامية المحافظات..
هذا الكتاب المتعدد الأسطر والمتكون من تلك الشواخص يبدو أن الزمن هو من قام بتصميمه ليكتب بهذه الطريقة، فلا أعتقد أن مصمما ما أراد ان يرتب النصب و القصور والتذكارات بهذه الطريقة، لكن بغداد تعرف كيف تكتبُ تاريخها بيديها، شامخةً مهيبةً خالدة..
أعود لاسطنبول المغمورة بمآذنها، وأتخيل مكان كل مئذنةٍ مخروطيةٍ قبةٌ ذهبية أو زرقاء كتلك التي تتشابك في بغداد، أحاول من هذه التخيلات التوصل إلى شكل بغداد في زمانها، لكنني اعودُ خائباً، فبغداد تلك، تبدو كأن لا مثيل لها في كل الدنيا..
رحم الله احمد شوقي حين قال في بغداد:
دَع عَنكَ روما وَآثينا وَما حَوَتا
كُلُّ اليَواقيتِ في بَغدادَ وَالتُوَمِ
دارُ الشَرائِعِ روما كُلَّما ذُكِرَت
دارُ السَلامِ لَها أَلقَت يَدَ السَلَمِ
وَلا اِحتَوَت في طِرازٍ مِن قَياصِرِها
عَلى رَشيدٍ وَمَأمونٍ وَمُعتَصِمِ
مَنِ الَّذينَ إِذا سارَت كَتائِبُهُم
تَصَرَّفوا بِحُدودِ الأَرضِ وَالتُخَمِ
#رسلي_المالكي
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.