وأنا أتابع برامج القنوات الفضائية العراقية، وبحكم عملي في الكثير منها طيلة السنوات الماضية، توصلت إلى حقيقة قد لا تنطبق على الاعلام العراقي وحده، بل على الإعلام في العالم بشكلٍ عام، و الحقيقة هي:
إن الإعلام الذي كان يقود المجتمع، صار يقاد من قِبَل المجتمع!
فالقنوات الفضائية صارت تبحث عن أي محتوى مهما بلغت تفاهته وسطحيته من اجل رفع نسبة المشاهدات، وهي بالتالي تحقق الهدفين: التنافسي والتجاري، واقصد بالهدف التنافسي المشاهدات التي تحصدها القناة قياساً بمشاهدات القنوات الأخرى، أما الهدف التجاري فهو حصد المشاهدات للحصول على إعلانات ودعايات تجني القناة من ورائها المال، فالمُعلن يفضل الشاشة ذات مشاهدات عالية، دون اكتراث للطريقة الذي حصدت به هذه القناة تلك المشاهدات.
لكن الاعلام التافه في مكانٍ آخر غير العراق قد تكون له محددات لا تسمح بانحداره أكثر، كالرقابة التي تمارسها السلطات المصرية على المحتوى بشكلٍ عام، ومثل تلك المحددات في دول عربية أخرى، ولذلك ترى إن انفلات الإعلام العراقي هو الوحيد الذي تخطى كل الحدود، وإن كنت تريد ما يُثبت، فانظر الى المصطلحات التي يتفوه بها نجوم البرامج التمثيلية الكوميدية الذين يريدون تمرير أفكار إيجابية للمجتمع لكن بطريقة سلبية، بل إن سلبية الطرح تفوق بتأثيرها الهدام الفكرة الإيجابية البنّاءة التي يراد إيصالها.
أما على مستوى المسلسلات الدرامية فحدث ولا حرج، تنجمع التفاهة بسوء الأداء وبدائية التمثيل والحوار الممل والفراغ من الفكرة كلها في منتج واحد، ويعرض على شاشات الفضائيات ليجني ملايين الردود السلبية على مواقع التواصل، وحين تسأل عن سبب استمرار القناة بعرضه، يأتيك الجواب فوراً: نجحنا في إثارة الجدل!!
عزيزي صاحب فكرة إثارة الجدل بهذه الطريقة: الجدل يعني نقاشاً بين وجهتي نظرٍ مختلفة أو أكثر، ينتج عنه في النهاية الاقتناع بإحدى وجهات النظر أو أنه يستمر الى وقتٍ أطول، فيصطف الناس وراء وجهة النظر التي تمثلهم ويتجادلون بينهم هم الآخرون، أما ما تسموه أنتم بالجدل فهو لا يمت للجدل بأي صلة، ما يحدث هو ثورة عارمة على القناة و المسلسل على مواقع التواصل، حملة من الانتقاص و السخرية والتنمر لا يمكن أن تسمى إثارة جدل، بل هي إثارة حفيظة، وشتان بين الإثارتين، قد يكون هناك من يدافع عن هذا المسلسل، لكن من هو؟؟ وهل يصلح إن يكون رأيه دافعاً لعرض هذا الفشل الهائل على الشاشة؟
في بلدٍ كالعراق لا توجد به أية جهة رقابية على المحتوى الفضائي و محتوى السوشيال ميديا، وفي ظل حالة الكبت الاجتماعي وصعود المد الديني، إلى جانب الأمية المتصاعدة وانتشار التخاريف والشائعات والجهل بكل شيء وشيوع البذاءة والإسفاف وعدم المحاسبة على المحتوى و التعليق في منصات التواصل، فإن حالة الرثاثة التي تنتشر على تلك المنصات هي حالة طبيعية، فهي نتاج الفرد الامي الجاهل العادي، لكن أن تنتقل تلك الحالة إلى التلفزيون الذي ينبغي ان يكون قائد المجتمع ويعمل وفق ضوابط ولوائح صارمة للمنتج المعروض على شاشته: فتلك هي الطامة الكبرى..
دخلتُ ذات يوم نقاشاً مع احد المذيعين في قناة فضائية، كان على وشك استضافة شخصية بائسة رثة من عالم السوشال ميديا، قلتُ له: لماذا تصنع من هؤلاء مشاهير باستضافتهم في برنامجك؟؟
قال لي: هذا الذي لا يعجبك لديه مليون متابع على يوتيوب، سينشر لقاءه معي على قناته، فينتشر برنامجي!!