حوار الآلوسي ومستقبل العلمانية العربية
حوار الآلوسي ومستقبل العلمانية العربية
بين كتابه المهم الأول " حوار بين الفلاسفة والمتكلمين " الذي صدر عام 1967 ، وكتابه الأخير " حول العقل والعقلانية العربية " الصادر عام 2005 * ، مسافة زمنية تمتد لما يقرب من 40 عاماً ، لم يتوقف فيها المفكر حسام محي الدين الآلوسي يوماً ، عن مواصلة العمل لإنجاز مشروعه الفكري العربي العقلاني العلماني ، على الرغم مما كان يشهده هذا الفكر من تحولات وانعطافات كثيرة وخطيرة ابتعدت به كثيراً عن التفكير العقلي ، وذهبت به إلى مجالات شتى ، تنزع نزوعاً لا عقلانياً مرة ، ودينياً غيبياً استرجاعياً مرة أخرى ، ورومانسياً خيالياً عاطفياً طوباوياً في بعض الأحيان ، فيما بقي التيار العقلاني العلماني يمارس دوراً نخبوياً ضيقاً في أفضل أحواله ، بل شهد تراجعاً مريعاً في العقود الأخيرة على صعيد الفكر الإسلامي عموماً ، والفكر العربي على وجه الخصوص .
وكان الآلوسي قد أنجز قبل اصدار كتابه " حوار " ** اطروحته للدكتوراه باللغة الانكليزية في جامعة كمبردج البريطانية ، وموضوعها " مشكلة الخلق في الفكر الإسلامي " ، ونشر بحوثاً لها صلة بمحتوى كتابه ، منها " مشكلة المعدوم وعلاقتها بمسألة الصفات " و " دليل المشاهدة " ، وكَتب عرضاً تفصيلياً ونقداً فلسفياً لـ " دليل الكندي في حدوث العالم المستند على تناهي جرم العالم " وكان يدور في ذهنه وهو يعد العدة لكتابه ، كتاب فريدريك انجلز " ضد دوهرنغ " *** وأعلن ذلك صراحة في ختام مقدمته للطبعة الثانية من الحوار بقوله انه من الطريف أن يقارن القاريء بين الحوار في هذا الكتاب ، وبين مثيله بين أنجلز والهر دوهرنغ ، على الأقل في الفصول ( 4 – 5 ) من كتاب أنجلز : ضد دوهرنغ ، ويقصد الآلوسي بذلك الفصول الفلسفية التي تناولت تخطيط العالم ومفهوم الوجود وادراكه والصيرورة وغيرها ، فضلاً عن مباحث الفلسفة الطبيعية في الزمان والمكان ، ويبدو لي أن الآلوسي قد تأثر كثيراً بأسلوب وطريقة دحض أنجلز ، ومعه كارل ماركس ، لطروحات وآراء أوجين دوهرنغ التي كانت تعد أخطر التيارات الأيديولوجية المعادية للماركسية في ألمانيا ، بل أن الآلوسي سار في العديد من أبحاثه ودراساته وكتبه على هذا النهج في دحض آراء الفلاسفة والمفكرين العرب القدماء والمعاصرين ، ابتداءً من الحوار ، وانتهاءً بكتابه حول العقل والعقلانية العربية ، ومنها كذلك كتبه المعروفة الأخرى مثل : " مشكلة الخلق في الفكر الإسلامي " و" الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم " و" التطور والنسبية في الأخلاق " و" أزلية العالم ودور الإله عند ابن رشد ". وكانت ظلال طريقة محاججة أنجلز لآراء دوهرنغ واضحة في العديد من مناقشات ومحاججات ومقارنات الآلوسي مع الفلاسفة والمفكرين والمتكلمين في مختلف الحقب التاريخية العربية والإسلامية ، وفي المقدمة منها مناقشات كتابه الأول " حوار بين الفلاسفة والمتكلمين " .
يقتصر القسم الأول من الكتاب على آراء الفارابي وابن سينا فيما وراء الطبيعة : " وهما الرائدان لنظرية الفيض في العالم الإسلامي ، وإليهما وجه الغزالي نقده في تهافته "، ويخصص الآلوسي الفصل الأول لكتب الفارابي : " الجمع بين رأيي الحكيمين " ، " آراء أهل المدينة الفاضلة " ، " فصوص الحكم " ، " السياسات المدنية " ، " رسالة في اثبات المفارقات " التعليقات " ، " الدعاوى القلبية " ، " عيون المسائل " ، و " الفصول المدني " ، فيما يخصص الفصل الثاني لكتب ابن سينا : " تسع رسائل في الحكمة " ، " رسالة في الحدود " ، " النجاة " ، " الشفاء – قسم الإلهيات – " ، " الاشارات والتنبيهات " ، و " رسالة في القدر " ، كما يستند في الهوامش على عدد من مراجع الفلسفة وعلم الكلام كرسائل الكندي الفلسفية ، وتهافت الفلاسفة للغزالي ، وشروح الطوسي لأقوال ابن سينا ، والشهرستاني في كتابه " نهاية الإقدام في علم الكلام " ، وكتاب " المعتبر في الحكمة " لأبي البركات البغدادي . فيما يتناول في القسم الثاني نقد المتكلمين لدليل العلة التامة ، وخلق العالم من العدم في الزمان ، إذ يلاحظ الآلوسي ان الفلاسفة والمتكلمين يتفقون على ضرورة أن يكون العالم محدثاً من عدم ، وان يكون محدثه فاعلاً مختاراً ، وان يكون العالم متأخراً عن الله ، وان الله كامل ، " ولكن البون شاسع بين الفريقين عندما نريد تحديد معنى كل نقطة من هذه النقاط عند كل منهما " . وفي هذا القسم يرجع الآلوسي إلى مراجع أخرى فضلاً عن شروحات الطوسي ، مثل كتب الأربعين لفخر الدين الرازي ، والتوحيد للماتريدي ، والانتصار لأبي الحسين الخياط ، ورسائل اخوان الصفا ، ومقالات الاسلاميين للأشعري ، والعقائد النسفية للتفتازاني ، وشرح العقائد النسفية للكستلي وغيرهم ، موضحاً موقف المتكلمين المتقدمين وأجوبتهم قبل الغزالي في دليل العلة التامة ، فيما يتناول في فصل مستقل من هذا القسم موقف الغزالي بصورة عامة ، يلحقه بقسم ثالث يخصصه لموقف الغزالي التفصيلي ، ويضمنه أدلة الغزالي الأربعة - دليل العلة التامة ، دليل قدم الزمان ، دليل قدم الامكان الذي يقتضي إمكان الأزلية ، والدليل الرابع هو إثبات قدم الهيولى - وكذلك اعتراضات الغزالي على دليل العلة التامة الذي يعد أهم ادلة الفلاسفة . ويرى الآلوسي ان موقف الغزالي هذا ليس فيه أصالة كبيرة بل معظمه ترداد لأقوال المتكلمين قبله : انما الذي يجعل الباحث يكرس وقفة تطول أو تقصر عنده ، هو انه يجد عند الغزالي – وربما لأول مرة – في الكتب الكلامية تنظيماً وتبويباً وجمعاً يساعد على حصر المشاكل المدروسة ، والنظر اليها موحدة وبصورة متكاملة وخصوصاً في " تهافته " . ويتوصل الآلوسي إلى هذا الحكم تجاه الغزالي بعد توضيح موقف الأخير بصورة عامة في عدد من المسائل الفلسفية الكلامية ، مثل مسألة الفاعل ، ومسألة العلة التامة والترجيح ، ومسألة الزمان ، واستحالة التسلسل إلى مالا نهاية ، ففي مسألة الفاعل ينتمي الغزالي إلى الفكرة المعروفة عند من سبقه من المتكلمين فيما يخص التمييز بين الفاعل المختار والفاعل الطبيعي ، لكنه يهدف إلى تفنيد زعم الفلاسفة في قولهم بأن العالم مع أنه قديم فإنه محدث بواسطة الله ، ويعده مجرد مجاز ، لكن الآلوسي يرى ان الغزالي لم يفلح في دعواه هذه ، ويعدد اسباب ذلك . والأمر يتكرر في مسألة العلة التامة والمرجح ، إذ يرى الآلوسي أن الغزالي لم يقدم جديداً في هذه النقطة ، وما قاله سبق أن ذكره بعض المتكلمين قبله : " وقد أوضح ابن رشد والرازي والطوسي ضعف هذه المعارضة بالاعتماد على أرسطو " . وفي مسألة الزمان يرى الآلوسي أيضاً أن موقف الغزالي ليس فيه جديد ، والأمر نفسه بالنسبة لاستحالة التسلسل إلى مالا نهاية ، فالغزالي في رأي الآلوسي لم يقدم كذلك جديداً في هذه المسألة ، وقد أعاد الشهرستاني والرازي أقوال الغزالي ومن سبقه فيها ، غير أن ابن رشد : " استطاع أن يقضي تماماً على قولهم باستحالة التسلسل إلى ما لا نهاية . وهنا يسجل الآلوسي نقطة تراجع علم الكلام بخصوص مسألة استحالة التسلسل إلى مالا نهاية فيقول : " إن الشيء المهم هو أن علم الكلام بعد هذه المرحلة صار يتجه للاعتراف بضرورة قبول تسلسل الحوادث إلى مالا نهاية – خلافاً لما فعل قبل ذلك – لتفسير كيفية صدور الحادث من القديم ، من دون أن يؤدي ذلك إلى حدوث القديم ، أو قدم الحادث المفرد " .
ويترك الآلوسي ما تبقى من صفحات كتابه لموقف الغزالي وابن رشد تجاه الدليل الثاني في قدم العالم عند الفلاسفة ، وهو الدليل المتعلق بمسألة الزمان ، ويعرضه بصيغتين ، ويورد آراء الغزالي بالتفصيل مع تعديلات ابن رشد وردوده على المعاندة أو الاعتراض لدى الغزالي وعموم المتكلمين ، والأمر نفسه يتكرر في دليل الفلاسفة الثالث على قدم العالم الذي ادعوا فيه أنه يمكن وجود عالم قبل هذا وهكذا باستمرار ، وكذلك في دليلهم الرابع المستند على قدم الإمكان لإثبات قدم المادة ، ومما يلاحظ ميل الآلوسي التام إلى رأي ابن رشد الذي يمثل الفلاسفة، فهو – أي الآلوسي – يوافق في مجمل تدخلاته بين صاحبي " تهافت الفلاسفة " و " تهافت التهافت " ، على وصف ابن رشد لمعارضات الغزالي ، بأنها سفسطائية حقاً .
إن هذا الانحياز الواضح للآلوسي ، وميله الأكيد ، للفكر الفلسفي والفلاسفة ، في مواجهة علم الكلام والمتكلمين ، يمثل اللبنة الأولى في الاتجاه العقلاني العلماني الذي سار عليه في مختلف بحوثه ومؤلفاته ، منذ البدايات الأولى لمسيرته العلمية في الستينيات وحتى رحيله في العام 2013 ، فهو يصل في مؤلفه الأخير " حول العقل والعقلانية العربية ... طبيعةً ... ومستقبلاً ... وتناولاً " إلى حقيقة مفادها : " أن المنهج الفلسفي يسير في طريق التشكيك والتدقيق إلى نهايته ، بينما الإيمان يرتكز على القبول والتصديق . العقل والفيلسوف يريد ان يناقش كل شيء في حين ان رجل الدين حتى لو اعترف بمبدأ المناقشة ، لا يسمح لهذه المناقشة إلا في حدود معينة لكي لا تصل إلى المعتقدات الأساسية ، وإذن فكل من الفيلسوف ورجل الدين يقف على أرض مختلفة ... ويترتب على هذا أن الفلسفة في الغالب تغلّب جانب العقل ، في حين أن الدين يغلّب جانب الإيمان والعاطفة والشعور والوجدان " . ويزيد الآلوسي موضوع العلاقة بين الفلسفة والدين ، والعقل والإيمان ، شرحاً بإشارته إلى الطبيعة البشرية الإنسانية للفلسفة التي تفترض مقدماً تعدد الآراء وتقبل الرأي والمناقشة ، في مقابل الدين الذي هو على الأقل وحي سماوي يقوم على أساس الحقيقة المطلقة الواحدة : " فهو وحده يملك الحقيقة أو حتى الأديان الاخرى التي تشاركه هي خطوات ناقصة أو مُغيرة مُبدِّلة ، أو أنها لا تعبر عن المطلوب كما يجب " . ومثلما اتبع الآلوسي آلية الحوار في " ضد دوهرنغ – أنتي دوهرنغ " في كتابه المبكر " حوار بين الفلاسفة والمتكلمين " يعود في النهاية إلى هذه الآلية في كتابه الأخير " حول العقل والعقلانية العربية " وهو يعرض ويعارض ويناقش ويقارن آراء المفكرين العرب المعاصرين من أمثال الطيب تيزيني وحسين مروة ومحمد عزيز الحياري ومصطفى عبد الرازق وشبلي شميل وزكي نجيب محمود ويوسف كرم وابراهيم مدكور وزكريا ابراهيم وحسن حنفي وامير اسكندر ومحمود أمين العالم ومحمد عابد الجابري وسعيد بنسعيد ونديم البيطار وصلاح قلنصوة وناصيف نصار وجميل صليبا ، ويخص بالمناقشة في مجال الاستشراق كلاً من عمر فروخ وعزيز العظمة ومحمد وقيدي ونجيب عفيفي وصادق جلال العظم وتيسير شيخ الأرض ومحمد اركون وغيرهم من مفكرين عرب ومستشرقين أمثال لويس ماسينيون وجولدتسيهر ورودنسون واندريه مايكل ويانوش دانتسكي .
في ثمان مباحث يطرح الآلوسي أفكاره ومناقشاته و" معانداته " مبتدءاً بإشكالية العقلانية في الفكر العربي ، ومنتهياً بطبيعة العقلانية في العالم العربي ومستقبلها ، وما بين هذين الموضوعين الإشكاليين - الذين نهتم بهما تحديداً في بحثنا الموجز هذا يضاف اليهما مبحث دور النخبة في بناء ثقافة عربية مستقلة - يتناول بالتفصيل موضوعات ذات صلة : الفلسفة والعلم تكامل لا تضاد ، الفلسفة في الفكر العربي المعاصر هل هي ابداع أم إعادة انتاج ؟ ، البنية والعلاقة ، ملاحظات حول الاستشراق ودارسيه ، مظاهر ونماذج من العقل والعقلانية في الفكر العربي والإسلامي " فترة ازدهاره " من المشرق والمغرب ، ودور النخبة في بناء ثقافة عربية مستقلة . موضحاً في موضوع إشكالية العقلانية في الفكر العربي أنه ينطلق من مسلمات أولها : أنه لا توجد عقلانية مطلقة ، غير منتظمة إلى واقع ، وغير محددة بزمن وأحداث وظروف ، وثانيها : وهي من مثل وضع العربة قبل الحصان بالنسبة للمستمع والقارئ ، ولكنها ليست كذلك بالنسبة للباحث لأنها محصلة في ذهنه في نهاية النظر والبحث " ، ويعني بذلك : " أن – عقلانيتنا – المكونة تاريخياً والمعاشة إلى اليوم ومهما كانت في أعلى مستوياتها ، هي عقلانية مختلفة عن الدين في المنهج ، وربما في جزئيات من الطروح الدينية ، إلا أنها في المضامين والموضوعات تكاد تكون واحدة . وأن هذه العقلانية لاهوتية مثالية ، روحية وتوقية مطلقية . وثالثها إن العقلانية العربية الإسلامية قد كونت عبر التاريخ بنية عضوية متماسكة ذات سمات وخصائص قوية مستمرة الوجود ، بحيث يبدو " العقل " العربي أسير قمقمها . ويقارن الآلوسي بين عقلانيتنا اللاهوتية المكونة تاريخياً ، وبين العقلانية اليونانية منذ القرن السادس قبل الميلاد ، مشيراً إلى كتابه " من الميثولوجيا إلى الفلسفة " الصادر عام 1973 والذي يرفض فيه ابتداء الفلسفة باليونان ، مبيناً أن العقلانية اليونانية لا تعاني مثل عقلانيتنا من مشكلة نص مقدس ، ولا توجد مشكلة توفيق ، ولا مشكلة صراع بين نقل وعقل ، لكن ذلك لا يعني بالضرورة : " إنفصال الفلسفة اليونانية عن الإتجاهات المثالية أو اللاهوتية ، فهذا واضح عند سقراط وافلاطون وأرسطو وأفلوطين ، إنما المقصود أن نسبة الضغط على العقل تكاد تكون معدومة ، مقارنة بما حصل في المسيحية في القرون الوسيطة ، لوجود سلطة مركزية – وهي البابوية – ونص ديني ، ومرجعية دينية ، وربما تكون الحالة قريبة من ذلك مع فارق في الدرجة لا النوع أيضاً ّإذا قارنا آليات وظروف الفلسفة اليونانية بظروف وآليات الفكر الفلسفي الإسلامي إلى اليوم " . ويشير الآلوسي إلى الخطأ الذي ارتكبه بعض مؤرخي الفلسفة المحدثين العرب ، وخصوصاً ممثلي الخط الماركسي والوضعي العلماني – ويقصد بذلك طيب تيزيني في كتابه مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط ، وحسين مروة في كتابه النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – عندما حكموا على كل فلاسفتنا وحتى المعتزلة بأنهم ماديون ، وماديون جدليون ، على أساس إقتناص نظرات جزئية لهم مثل قولهم بقدم العالم والمادة بالزمان عند الفارابي وابن سينا وبقية الفيضيين أو عند ابن رشد وما إلى ذلك من جزئيات ، ويرد الآلوسي على ذلك بالقول : " أننا لو عدنا إلى الفلسفة الأساسية في الفلسفة بحسب تسمية هؤلاء الماركسيين ، والماركسية أساساً ، لوجدنا أن جميع فلاسفتنا يضعون الله أو العقل مبدأ للموجودات بما فيها المادة ، والأمر ينطبق على الرازي الطبيب وعلى ابن رشد وعلى الكندي وهم الفلاسفة الوحيدون من بين فلاسفتنا الذين لا يقولون بنظرية الفيض . وهذا يجّر إلى مسألة التوفيق بين الدين والفلسفة أو العقل والنقل " وينتهي الآلوسي إلى نتيجة مفادها " أن فلسفتنا وكلامنا وتصوفنا هو فكر يدور في جو مثالي روحاني ، غير مادي ، وإلى حد كبير ، لاهوتي ديني " . وهي نتيجة تنسف إلى حد كبير كل الآراء التي قيلت عن فلسفة إسلامية عقلية منفصلة عن الدين والوحي الديني ، وتقرب كثيراً بين مهمة علم الكلام والفلسفة في سعيهما للبرهنة على الحقائق الإيمانية بالأدلة العقلية ، أي أن مهمة الفلسفة الإسلامية ، هي مهمة توفيقية بين العقل والوحي ، بين الدين والعلم ، خدمة للدين الإسلامي ، والنص الإلهي المقدس .
وفي مجال بحثه في موضوع دور النخبة في بناء ثقافة عربية مستقلة ، يفند الآلوسي احتمالات القول بثقافة " مستقلة " واحدة بعد الأخرى ، وهي احتمالات توصل اليها بعد أن قَلَب الأمر مع نفسه – وفق تعبيره – وملخصها أن تكون ثقافة مستقلة عن الثقافة العلمية ، أو أن تكون مستقلة عن الثقافة الحديثة ، أو مستقلة عن ماضيها وتراثها ، أو أن تكون مستقلة عن ألوان معينة من الثقافة ، كأن تكون مستقلة عن الدين ، أو العلم ، أو التكنولوجيا ، أو عن القيم وأشكال من السلوك والتذوق الجمالي والفني . ويقرر الآلوسي أن أياً من هذه الاحتمالات مستحيل ، بل أن كلاً منها لا يقل شناعة وضرراً عن الآخر ، ويقدم في المقابل طرقاً للوصول إلى هذه الثقافة العربية تشخصاً ، والعالمية جوهراً ، يطبقها على ميدان واحد من الثقافة هو الفلسفة . وترتكز هذه الطرق والمسالك التي يقترحها على أنه في عملية الأخذ والعطاء ، الثقافة شيء والسياسة شيء آخر : " ونحن في حمى كرهنا للتاجر والسياسي الغربي ، علينا ألا نرمي الطفل مع ماء الغسيل ، علينا أن نبقي على الفنان والعالم والفيلسوف والمخترع ، هؤلاء – غربيون – لكنهم جزء ثابت وعام ينتمي للإنسانية ككل " ، ومنها أيضاً أن العلم لا يسجل بالمكان الجغرافي أو القومي : " فلا يقال علم الطبيعة البريطاني ، أو علم الهندسة الاميركي ، أو علم الفلك الإيطالي " ، ثم إن الموقف العدمي من الثقافة مرفوض ، سواء كان اعداماً للماضي أو الحاضر ، ومن يريد بناء ثقافة جديدة ، فهو مقّر بأنه لا يملكها ، وأن هناك ثقافة جديدة متقدمة عليه ، ويؤكد الآلوسي على التواصل ، وهو لسان حال فلاسفتنا من الكندي إلى ابن رشد ، اي عدم الخوف على " مالنا من رفده بما لغيرنا " مشيراً إلى تفصيل القول بأن ما صُلح به أولنا يُصلح به آخرنا ، وكيف أن الإسلام نقل ثم هضم فكر الغير بالترجمة والتواصل حتى ما كانت فيه مخالفات صريحة معه " لكن ردّ فعل الإسلام كان عدم الاستسلام له ، بل تمثله " وينتهي الآلوسي في نهاية فروضه التي أشرنا إلى بعضها وليس جميعها إلى جملة ملاحظات من أجل الوصول إلى " ثقافة عربية متواصلة مع الثقافة العالمية ، وفي جميع الميادين ، لكن نريدها من خلال جهد عربي وابداع عربي ، ومشاركة عربية ، ومبادرة عربية " منها دراسة ما فعله المسلمون في عصور ازدهارهم حيث تم نقل معظم التراث القديم ، العلمي والفلسفي ، والاستفادة من تلك التجربة ، بكل ابعادها ودروسها ونتائجها ، ثم تمثل ما حدث مطلع النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من حركة شاملة استهدفت نهوض الحياة الفكرية العربية في كل أرجائها ، فناً وعلماً وفلسفةً ، والعمل على تطوير المراكز الثقافية ، من جامعات ومجامع علمية ، ومراكز بحوث ، وبنوك معلومات ، وبعثات إلى الخارج ، ودراسات عليا ، وتطوير المكتبات ، وتهيئة النصوص الفلسفية الكاملة ، العربية القديمة والأجنبية ، وعندما يتهيأ النص الفلسفي الجيد ، يحدث الامتصاص والتمثل ، ويأتي بعد التمثل النقد ، ومن ثم ظهور الجديد والإبداعي ، وهذا ما أشار له أيضاً ناصيف نصار في " طريق الإستقلال الفلسفي " . ومن الفروض المهمة التي يشير إليها الآلوسي " التعددية " مؤكداً على أنها كانت حال فكرنا الفلسفي في فترة ازدهاره ، ليس فقط في المنظورات وفي الحلول والمذاهب ، بل توجد تعددية ، حتى ضمن المذهب الواحد ، مثل ضمن علم الكلام أو الفقه ، ومن تلك الفروض المهمة أيضاً " الحرية " التي يعدها الآلوسي شرطاً ضرورياً ، إذ بدونها لا يكون نقد ولا تعددية ، ولا ابداع . وفي الأخير يؤكد على " تطوير الأسس المادية والتحتية لمجتمعنا العربي " : فالثقافة لا توجد في فراغ ، بل توجد في إنسان يحملها ، ويزاولها ، فإذا كان هذا الإنسان لا يحقق أدنى درجات الوجود المادي والاجتماعي والصحي فكيف يمكن الحديث عن عقل متفتح متسامح ، وأخلاقيات وفن وآداب ... الخ ؟ .
وحول طبيعة العقلانية العربية ومستقبلها ، يحدد الآلوسي بداية أنه لا يقصد بالعقلانية مذهباً عقلياً محدداً : " بل المذهب العقلي عند ديكارت في مقابل العقل التجريبي عند فرنسيس بيكون " وهو يقصد بالعقلاني فعل التفلسف المعتمد على العقل الحّر ، ويقصد بشكل أعم منهج التفكير الفلسفي في مقابل منهج التفكير الديني ، وأول ما يلاحظه الآلوسي في هذا المحور " تقارب الموضوعات التي عالجتها الفلسفة مع الموضوعات الرئيسة للعقائد الدينية السماوية ، مثل أصل الكون ، وصلته بالله ، وغاية الإنسان ومركزه فيه ، وحياة الإنسان الخلقية ، ومصير الإنسان بعد الموت " ويتوصل إلى نتيجة مفادها أن التصادم بين الفلسفة وتلك العقائد ، يعود إلى الاختلاف في المنهج أكثر منه خلافاً في المحتوى والمضمون ، ويقصد بذلك أن المنهج الفلسفي منهج نقدي ، في حين أن منهج التفكير الديني هو منهج ايماني ، ويؤكد الآلوسي مقولة كمال عبد اللطيف التي جاءت في بحثه المعنون " طبيعة الحضور الفلسفي الغربي في الفكر العربي المعاصر " من أن الفكر الفلسفي تأريخي ومتفاعل تفاعلاً حتمياً مع التاريخ ، أما التفكير الديني فهو خارج التأريخ والزمان ، ثم يتوصل الآلوسي إلى جملة نتائج منها : " لا توجد عقلانية مطلقة ، بل عقلانية مكوّنة تأريخياً ومرتبطة بزمان وأحوال ، وان الظاهرة الكبرى في تأريخنا الفكري هي التداخل بين العقلي والنقلي وبين الديني والفلسفي ، والغالب على كل هذه الطروح هو الإطلاقية ، فالكل يعتقد أنه يملك الحل الصحيح والوحيد وكل واحد يعتبر الآخر خارجاً عن حدود المعقول حتى ضمن المذهب الواحد بحيث يكفر التلميذ أستاذه في كذا مسألة ، وخلال المسيرة التأريخية الطويلة تكونت بنية حية متماسكة ذات أطر محددة ، وهي بنية دينية في الغالب ، ومثالية روحية لاهوتية في حقول الفكر العقلاني الفلسفي " .
ويتحدث الآلوسي عن أنواع العقلانية : عقلانية دينية تجاوزية أو متعالية " ترانسيندنتال " تتجاوز العقل وتسفهه ، وعقلانية دينية مفتوحة أو مرنة ترى أن الدين والعقل أو الشريعة والفلسفة لا يتضادان ، وعقلانية لاهوتية تعتمد على العقل فقط لكنها تعترف بأهم فكرة دينية وهي وجود موجد ومنظم لهذا الكون ، وعقلانية لاهوتية تعتمد على العقل لكنها لا تراه مناقضاً للنصوص والعقائد الدينية – ينبه إلى وصفه هاتين العقلانيتين باللاهوتية وليس الدينية - ، وعقلانية علمانية ، تقول بفصل الديني عن الدنيوي وحصر الديني في علاقة فردية بين الإنسان والله ، وعقلانية عقلية خالصة ، تتجاوز كل سلطان أو سلطة سوى سلطة العقل ، - ومنها أقسام مثل العقلانية الشكية التي منهجها الشك ، والعقلانية التجريبية أو الوضعية التي ترفض الميتافيزيقا وكل مالا يدرك بالحس ، والعقلانية العقلية أو الخاصة ، وهي العقلانية النفعية أو الذرائعية – ثم العقلانية الحقوقية ، ويقصد بها لوائح هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها العالمية المعنية بحقوق الفرد في الاعتقاد والرأي الفردي بلا قيد ولا شرط . ومن القضايا المهمة التي يتوقف عندها الآلوسي التصنيف الذي وضعه جميل صليبا للاتجاهات الفلسفية العربية ، وبعضها انتهى ومات أو كاد يموت ، ويعتمد الآلوسي على هذا التصنيف على ما فيه من نواقص وما لحقه من تصحيحات بحسب قوله ، وبحسب ما أورده في الهوامش حول النقد الذي وجه إلى هذا التقسيم والاضافات المستمرة عليه من قبل عدد من المفكرين أمثال ناصيف نصار وسعيد بنسعيد وكمال عبد اللطيف وأحمد ماضي . والمعروف أن صليبا صنف تلك الاتجاهات بما يأتي : الاتجاه العقلي عند محمد عبده ومحمد فريد وجدي ، ويوسف كرم – وكل هؤلاء يجمعون بين الاتجاهين العقلي والديني - ، ثم الاتجاه الروحي ممثلاً في وجدانية عباس محمود العقاد ، وجوانية عثمان أمين ، ورحمانية زكي الأرسوزي ، وشخصانية محمد عزيز الحبابي ، ورينيه حبشي . ويضاف إلى هذه الاتجاهات الدينية – العقلية – الروحية ، تصنيف زكي نجيب محمود الذي شمل الاتجاه الروحاني الخاص عند محمد مصطفى حلمي ، والاتجاه المثالي عند توفيق الطويل . ويطلق حسام محي الدين الآلوسي على هذه الاتجاهات كلها تسمية " كشكولية " لأن المنظور التوفيقي يهيمن عليها ، وفيها سمات كل ما أسماه بالعقلانية المكوّنة تأريخياً : " مع فوارق لا تؤثر كثيراً في هذا الحكم " .
ويخصص الآلوسي في نهاية كتابه صفحات لمناقشة آراء لمفكرين عرب آخرين حول سيادة العقل والعقلانية الأصيلة والحرية والموقف الفلسفي النقدي ، ومنها آراء زكريا ابراهيم وفؤاد زكريا وعادل ظاهر ومحمود امين العالم وحسن حنفي وزكي نجيب محمود زعيم المذهب " البرانيّ " الوضعي الذي يرفض الميتافيزيقا الخرافة ويمهد الطريق لفلسفة علمية ، ومن دون أن يخفي اعجابه بمحاولة محمود أمين العالم النقدية للفكر الفلسفي العربي خصوصاً التراثي .
الهوامش :
* صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى عن دار القدس للنشر والتوزيع في عَمان عام 2005 ، وصدر عام 2011 بعنوان جديد هو – العقلانية ومستقبلها في العالم العربي - عن الدار نفسها وبالمحتوى نفسه ، وعدته الدار الطبعة الأولى أيضاً ، والصحيح هو الطبعة الثانية .
** صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1967 عن مطبعة الزهراء ، بغداد ، شارع المتنبي ، تحت سلسلة " في سبيل فهم الفلسفة الإسلامية " وحملت رقم 1 مشكلة الوجود . الكتاب الأول . وساعدت جامعة بغداد على طبعه . وكتب الآلوسي مقدمة عامة للكتاب بتاريخ 26 / 9 / 1967 أشار فيها إلى صعوبة كتابه هذا على القارىء الذي عليه أن يمضي في قراءته قراءة صبورة منفتحة ، لأن من يحب أن يطلع على الفلسفة الإسلامية : " بل والفلسفة القديمة كلها ، فلا مناص له من مواجهة الصعوبات في اسلوبها وفي الفاظها وعليه أن يعي أنها ليست فلسفة حديثة في المنهج والاسلوب بل وحتى في بعض مشكلاتها وتناولها لهذه المشكلات " .
*** انجلز : كتاب " ضد دوهرنغ .. ثورة السيد دوهرنغ في العلوم " المعروف أيضاً باسم " أنتي دوهرنغ " ألفه فريدريك أنجلز بين الأعوام 1876 – 1878 للرد على الالماني اوجين دوهرنغ ونقد أفكاره البرجوازية ، ومن خلاله أيضاً دافع انجلز عن مبادىء النظرية الماركسية ، وقدم عرضاً متكاملاً لأسس هذه النظرية ، وأشار انجلز إلى تقسيم العمل بينه وبين ماركس ، فكان نصيبه تمثيل آرائهما في الصحافة الدورية – ومن ذلك طبعاً خوض النضال ضد الآراء المعادية – بغية توفير الوقت لماركس من أجل العمل في مؤلفه الرئيسي العظيم ، والمقصود بذلك كتاب " رأس المال " . ويشير انجلز في مقدمته للكتاب إلى دور ماركس في تثبيت وتطوير الجزء الأعظم من مفهوم العالم المعروض في كتابه هذا ، وأنه قرأ له كل مخطوطة الكتاب قبل أن يسلمها للمطبعة ، بل أن ماركس كتب القسم الخاص بالاقتصاد السياسي في الكتاب : " ولكني اضطررت للأسف إلى اختصاره بعض الشيء لمجرد أسباب خارجية . وقد اعتدنا من زمان أن نساعد بعضنا البعض في المجالات المتخصصة " . " انجلس .. ضد دوهرنغ ، دار التقدم ، موسكو ، 1984 ترجمة محمد الجندي وخيري الضامن " .
1 تعليق
-
Comment Link
الأحد, 04 آب/أغسطس 2024 02:48
posted by محمد فوزي كريم
تلخيص جميل جدا يستطيع القارئ أن يفهم الاتجاه الذي يسير فيهِ المؤلف الالوسي . الجدير بالذكر قبل فترة نشرت بحث في مجلة لارك تحت عنوان: " صفات الخلافة بين شرائع الإسلام والفلسفة "، والفكرة في البحث توافقت مع الدكتور الألوسي بالرأي . علماً أني لم اقرأ من قبل للدكتور الالوسي . على مايبدو أن الإسلام لايمكن أن يتدلخل مع الفلسفة حتى في تشكيل الالفاظ التي جاء بها بعض الفلاسفة العرب والمسلمين تحت تسمية : { الفلسفة الإسلامية} .
هل هنالك لروابط لكتبِ الدكتور الالوسي وكيف يمكن الحصول عليها .
مع الشكر والتقدير لدكتور طه جزاع عن النشر . محمد فوزي كريم
قسم فلسفة الاديان / طالب دكتوراه السنة الرابعة /
جامعة يالوفا / تركيا
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.