مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

أزمة الأبستمولوجيا الإنسانية

قيم هذه المقالة
(2 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email
ع

يتسمُ عصرنا الراهن بالتسارع وتدفق المعلومات والتراكم المعرفي ، والثورة الرقمية التي لا حدود لها ، ويصاحب ذلك كله تطور هائل في تكنولوجيا الاتصالات والبرامج الإلكترونية وتطبيقات التواصل الاجتماعي ، والتعليم والتربية والتفاعل عن بعد ، وإزاء هذه المعطيات كان لابد لمفاهيم قديمة أن تتغير وتتطور وتتبدل مهامها لتواكب المجتمعات البشرية في أزماتها المتجددة ومشكلاتها المعاصرة ، ولم تكن المفاهيم العلمية والنظريات التربوية والاجتماعية التي لم تكن تقبل الشك ، في منأى عن تلك التغيرات التي عصفت بالبشرية مع نهايات الألفية الثانية ، وبدايات الألفية الثالثة التي مازالت بعد انتهاء عقدين منها حبلى بالأحداث والتطورات الدراماتيكية على صعيد المفاهيم السوسيولوجية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعلمية التي تمثل جوهر ذلك التغيير الحاسم الذي لا مهرب منه .
وضمن سياق عملية التغيير ذاتها ، يأتي كتاب الأستاذ الدكتور قاسم عبد عوض المحبشي من اليمن ليعالج وفق منهج نقدي ما طرأ من تطورات على مفاهيم العلوم وفلسفتها وعلى التربية وغاياتها ودورها في ظل التحولات التي طالت كل مناحي الحياة ، والتي أفضت كما يؤكد مؤلفه " إلى ادخال الأبستمولوجيا الإنسانية في حالة أزمة منهجية ونظرية وتحديات حاسمة ". وقد رصد بعين الباحث الرصين آثار تلك الأزمة على تطور العلوم ومسيرة المجتمعات البشرية من خلال عرض موضوعي وموجز لأهم الطروحات النظرية الحديثة والمعاصرة التي تناولت فلسفة التقدم وولادة المفهوم وسياقات المعنى ، أو من خلال دراسة آراء أساطين العلم وفي مقدمتهم توماس كون فيلسوف الثورات العلمية ، وكارل بوبر ومنهجه العلمي ، من دون أن يهمل مواضيع تربوية ملحة في المجتمعات العربية مثل برامج الدراسات الأكاديمية النسوية العربية ، كما يولي أهمية لتعليم الفلسفة للأطفال متخذاً من فيلسوف التعليم الأمريكي ماثيو ليبمان ومشروعه التعليمي الجديد انموذجاً ، وهو المشروع الذي حظي باهتمام منظمة اليونسكو التي أصدرت كتاباً يتضمن مجمل عناصر المشروع وتطوراته النظرية والمنهجية والمؤسسية . ومما لا شك فيه أن ربط الفلسفة بالتربية ليس وليد اليوم ، بل أن الفلسفة ذاتها ماهي إلا النظرية العامة للتربية – على حد وصف جون ديوي – وهكذا لا نكاد نجد فيلسوفاً واحداً من دون نظرية تربوية منبثقة من منظومته الفلسفية ، ابتداءً من افلاطون وارسطو ومروراً بجون لوك وجان جاك روسو وعمانوئيل كانط وسوزان لانجر وماكس بلاك وغيرهم الكثير .
وفي سياق فلسفة العلم التي نضجت على يد أوغست كونت ، ومصطلح العلوم الإنسانية والاجتماعية الذي تبلور على يد الأنثروبولوجي البنيوي ليفي شتراوس ، فإن المؤلف يبذل جهداً منهجياً منظماً باعتماده على عشرات المصادر الأساسية والمراجع المهمة القديمة منها والحديثة والمعاصرة ، ليقدم خلاصات مهمة تغني مدرسي العلوم الإنسانية والاجتماعية وطلبتها ، مما يمكن عده إضافة نوعية علمية لمكتبات العلوم والدراسات العليا في الجامعات العربية الرصينة ، فضلاً عن عموم القراء الباحثين عن الجديد في هذه العلوم التي بقيت إلى حد ما تدور عما هو معروف ومتداول في السياقات التاريخية ولا تخرج عن اطارها إلا فيما ندر ، ليأتي هذا الكتاب لا ليستعرض تلك السياقات فحسب ، إنما يخضعها لنظرة نقدية عملية تمثل نتاج الخبرة المتراكمة للمؤلف التي حصل عليها بعد سنوات طويلة من العمل الأكاديمي والإداري في عدد من الجامعات والمؤسسات التربوية العربية ، وتدريسه للفلسفة العامة وفلسفة التاريخ والحضارة والفكر الغربي المعاصر ، واشرافه على عدد من رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه في كليات الآداب والتربية.
يقيناً فإن تطور العلوم الإنسانية عموماً ، والعلوم التربوية والاجتماعية على وجه التحديد ، يرتبط إلى حد بعيد ، ليس بالجوانب النظرية فحسب ، على أهمية هذه الجوانب ، إنما يرتبط أيضاً بمعطيات العصر الحديث ، والتقدم العلمي والتقني الذي قلب العديد من المفاهيم رأساً على عقب ، أو غيَّر الكثير من القناعات التي كانت تبدو راسخة لا تحتمل الشك والحِجاج ، فضلاً عن التغيير الدراماتيكي الذي حدث في بنية المجتمعات البشرية ، ومنها المجتمع العربي ، وشيوع مفاهيم الديمقراطية والحرية الشخصية والعدالة والمساواة وحرية التعبير وحقوق المرأة والطفل وحقوق الإنسان ، كل ذلك أدى إلى ضرورة فحص تلك القناعات من جديد ، واخضاعها لمنهج نقدي تحليلي يتسق وضرورات الحياة المعاصرة في جوانبها الإنسانية والاجتماعية والتربوية ، والوصول بالتالي إلى خلاصات واستنتاجات يمكن أن تساعد على اخراج الأبستمولوجيا الإنسانية من أزمتها المنهجية والنظرية ، ومواجهة التحديات الحاسمة التي تواجهها ، وقد حاول المؤلف بدافع الحرص الشديد على مسؤوليته العلمية والعملية ، أن يدلو بدلوه في هذا المضمار ، ويقدم استهلالات وفرضيات وأطر منهجية وخلاصات وتوصيات على طريقة البحث العلمي الجاد ، من أجل مواجهة تلك التحديات بسلاح العلم والمعرفة ، وببناء سوسيولوجي حداثوي متين يترافق مع البناء السيكولوجي للنشأ الجديد وهو يواجه عالَماً متغيراً ينطوي على الكثير من المصاعب والتحديات والتناقضات والأزمات في مختلف المجتمعات البشرية ، وفي مقدمتها مجتمعاتنا العربية التي تعاني من أزمات متراكمة وحادة تهدد وجودها وهويتها الثقافية والحضارية ، وتضع حاضرها ومستقبلها في غياهب الضياع . ولعل تأكيده على نظرية توماس كون حول تاريخ العلم يمثل فهمه الخاص أيضاً الذي يتبنى نظرية تاريخ العلم الجديدة وفهمها للعلم على أنه نشاط اجتماعي لا مجرد نمط من المعرفة ، وأنه ظاهرة تاريخية لا عقلية ، وانه ليس موهبة شخصية فحسب إنما ممؤسسة حضارية ، كما تقوم هذه النظرية على أن العلم عمل مؤسساتي يتأثر بالبنى والقيم الثقافية والاجتماعية والسياسية ، وهو ينمو بشكل تحولات ثورية ، وتاريخه يتصل بكل أنماط المعرفة ، كما أنه يمثل نسقاً مترابطاً لا منفصلاً مع التكنولوجيا ، ونفهم من هذا كله أن العلم ليس بريئاً من السياسة ، وهو ليس معرفة موضوعية محايدة ، إنما هو معرفة احتمالية تتأثر بالبنى الثقافية السائدة في أي مجتمع من المجتمعات البشرية ، وذلك ما يؤكد من دون أدنى شك البعد السوسيولوجي للمعرفة العلمية ونسبيتها وطبيعتها الإنسانية ، وهذه هي مهمة هذا الكتاب التي تتلخص في " تعيين راهن العلوم الإنسانية والاجتماعية وتحدياتها المعاصرة " .
أما عن المؤلف الأستاذ الدكتور المحبشي ، فقد عرفته قبل عقدين من الزمان طالباً متميزاً ومثابراً وجاداً من بين طلبة الدكتوراه في قسم الفلسفة بكلية الآداب / جامعة بغداد ، فضلاً عن دماثة خلقه وأدبه ولطفه في تعامله مع اساتذته وزملائه ، وقد تمكن بعناده واصراره من مواصلة مشواره العلمي على الرغم من الظروف الصعبة التي مرت على العراق بعد الاحتلال الأميركي ، إذ وقع ذلك وهو في مرحلة التحضير لنيل شهادة الدكتوراه في فلسفة التاريخ والحضارة ، لكنه غامر بالتواجد في بغداد متحدياً كل المخاطر ، وواصل إنجاز اطروحته حتى اكتمالها ومناقشتها واستكمال إجراءاتها الإدارية الجامعية . وقد تابعتُ نجاحاته العلمية والأكاديمية بعد ذلك في كلية الآداب بجامعة عدن ، وأثناء تفرغه العلمي في احدى الجامعات المغربية ، وأخيراً تفرغه الجامعي في كلية الآداب بجامعة القاهرة للعام الأكاديمي 2020 – 2021 .

القراءات 531 مرة

1 تعليق

  • Comment Link قاسم المحبشي الأربعاء, 27 تشرين1/أكتوير 2021 11:46 posted by قاسم المحبشي

    يسعدني ويشرفني أن يستلهم استاذنا العزيز دكتور طه جزاع مقاله الأكاديمي عن أزمة الابستمولوجيا الإنسانية من كتابي المتواضع مقاربات نقدية في فلسفة العلوم والتربية وقد جعلته تقديما للكتاب اعتزازا ووفاءا بالاستاذ الدكتور طه الذي عرفته رئيسا لقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة بغداد حينما كنت طالبا في برنامج الدكتورة وقد احاطنا بتعاونه ورعايته الكريمة وتعلمنا منه الكثير من القيم الاكاديمية وفنون الكتابة الصحفية. خالص الشكر والتقدير للاستاذ طه جزاع والموقع المحترم

    Report

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78629

حاليا يوجد 11 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions