سيفٌ ذو حدين .. ذلكم هو التاريخ وأحداثه . فمن تفاصيل تلك الأحداث وحكاياتها يمكن للمرء أن يشحذ روح الكراهية والبغضاء ويؤجج رغبة الانتقام في النفوس ، في عالم لم يعد يتسع للأحقاد بين البشر ، ويكفيه ما يعانيه من كوارث طبيعية وأوبئة وفقر وجوع ومرض .لكن يمكن للمرء أيضاً أن يجعل من تلك الحوادث عبرة لإنسان الحاضر ودرساً في التسامح والمحبة والسلام .
وأنا أمر بشارع الإستقلال في اسطنبول ، لفت انتباهي أن كاتدرائية سانت انطونيو الكاثوليكية التي تقع وسط هذا الشارع ، قد أقامت معرضاً للوحاتٍ فنية مع شروحات لكل لوحة، وفتحت أبوابها للزائرين لايقاد الشموع وسماع التراتيل الكنسية والتأمل في عجائب الفن المعماري لهذه الكنيسة التي أنشئت في العام ١٩٠٦ .
المعرض اقيم لمناسبة مرور أكثر من ٨٠٠ عام على أول حوار تاريخي مسيحي إسلامي جرى في مثل هذا الشهر ( أيلول ) من العام ١٢١٩ للميلاد بين القديس فرانسيس الأسيوزي والسلطان الكامل محمد الأيوبي في دمياط .
وعلى الرغم من أن المراجع التاريخية الإسلامية المُعتمَدة لا تذكر شيئاً عن هذا الحوار ، إلا أن المصادر التاريخية الكنسية الكاثوليكية تؤكده ، بل وتركز على ما تسميه إختبار النار الذي اقترحه القديس على السلطان ، غير أن الأخير لم يوافق عليه ، لكنه عامل القديس باحترام واستمع إليه وحاوره ، وحمله الهدايا وهو يعود سالماً إلى معسكره .
تقول شروحات اللوحات ( شتنبر / أيلول ١٢١٩ . عبر الراهب فرانسيس ، قادماً من معسكر الصليبيين الذين يحاصرون معقل المسلمين بدمياط في مصر ، صفوف المقاتلين للقاء الملك الكامل ، سلطان القاهرة ورئيس جيش الهلال ، رحب به الملك واستمع اليه . في نهاية الحوار ، استأذن فرانسيس وعاد سالماً إلى المعسكر . ورد هذا الحدث في مصادر تاريخية مختلفة خارجية وداخلية للرهبنة الفرنسيسكانية . على الرغم من ان هذه المصادر لا تتطابق دائماً في التفاصيل والتفسيرات ، فانها تثبت كلها حقيقة اللقاء المباشر بين الأثنين ، ويبدو انها تتلاقى حول نقطة مهمة ، وهي ان هذا الحدث - غير المسبوق وغير المتوقع والمثير للدهشة - أثار تعجب المعاصرين ) .
بغض النظر عن تفاصيل هذا اللقاء وواقعيتها ، فهو يؤرخ لمبادرة تاريخية قام بها القديس فرانسيس الأسيزي - على الأقل وفق ماأكدته المصادر الكنسية الفرنسيسكانية - من أجل الحوار السلمي بعيداً عن قعقة السيوف ، وسار بشجاعة وايمان بالسلام بين البشر ، وتحمل المخاطر ليصل إلى الملك الكامل في دمياط من أجل الحوار ، فكان أول حوار بين المسيحية والإسلام .
وترى الناس من كل الأجناس والأديان ، يدخلون كاتدرائية سانت انطونيو ، ويبادر بعضهم لإيقاد الشموع داخل الكاتدرائية .
ماالذي يخسره المرء ، لو أوقد شمعة في محراب المحبة والسلام ؟
٨ قرون على حوار القديس والسلطان
تم نشرها في -
الدكتور طه جزاع
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.