عاشقُ الحّلاج .. متصوفٌ عَقلاني في تَكية البحث العلمي
في الذكرى 15 لرحيله :
عاشقُ الحّلاج .. متصوفٌ عَقلاني في تَكية البحث العلمي
وصفوهُ بأوصافٍ شتى ربما لا تنطبق إلا على ظاهره واسلوبه في الحياة : ظنوه درويشاً من دراويش التَكايا ، أو حلاجّا معاصراً ، غير أن من أقترب منه ، ونهل من فيضه ، وحاور روحه قبل عقله ، يعرف حق المعرفة بأن الأستاذ المتمرس الدكتور كامل مصطفى الشيبي ، لم يكن إلا باحثاً جاداً ، وموثقاً حريصاً ، ومنقباً تراثياً لا يشق له غبار .
هو محبٌ للتصوف وأهله ، وعاشقٌ للحّلاج وسيرته وأشعاره وشطحاته ، وإنسانٌ بقلب سليم ، وبروح منفتحة لا تعرف الغلو ولا التطرف ولا التعصب مهما كان نوعه ، إلّا التعصب للعلم والحقيقة ، ولا أكثر من ذلك .
ولعل من طرائف الناس وأوهامهم ، أنهم يحسبون الذي يكتب عن الوجودية وجودياً ، والذي يبحث في الماركسية ماركسياً ، والذي يحاضر عن البراغماتية براغماتياً ، والذي يُنَّظرُ في قضايا الليبرالية ليبرالياً ، ونسوا في غمرة تلك الأوهام ، أن الباحث الموضوعي المحايد ، يضع حاجزاً منيعاً بين معتقداته وبين موضوع بحثه ، ويُجَّمد عواطفه في بَّرادة البحث العلمي ، لكي يكون منصفاً في أحكامه ومسارات بحثه ... وهكذا كان الشيبي ، الباحث في الفلسفة الإسلامية والتراث العربي الإسلامي عن وعي ودراية ومحبة وشغف ، والموغل بغوصه في بحر التصوف وأحواله ومقاماته وشطحاته وجذوره الأولى في الزهد والتقشف والتعفف ، والعاشق لأسرار الشِعر الصوفي وألغازه ، والمتتبع ضريح الحّلاج ومقامه ، والمقتفي أثر الدراويش وحلقات ذكرهم ، والمقتني أدواتهم في مكتبته حتى آخر أيامه ، من رقٍ ونايٍ وكشكولٍ وسيفٍ ودرباشة .. لكنه لم يكن درويشاً إلا في تَكية البحث العلمي ، ولم يكن متصوفاً إلا بما يسمو بالعقل خارج كهوف الخرافة ، وبما يلهب حماسته للاقتراب من معشوقه الحّلاج على خطى المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون مكتشف قبر صليب التصوف ، أو مكان دفن ما تبقى من رماده ، فيكتب الشيبي في شباط 1973 صارخاً مستغيثاً في جريدة الجمهورية : " ابن منصور الحلاج يختنق في محلّة المنصورية " داعياً الجهات المسؤولة للاهتمام بضريح الحلاّج المحاصَر بين البيوت في محلة المنصورية بكرخ بغداد ، وحاملاً كاميرته الفوتوغرافية الصغيرة ليوثق خرابة ذلك القبر بصور ينشرها هنا وهناك ويثير الانتباه اليه حتى نجح في مسعاه ، ثم يكتب عام 1976 مقالاً في مجلة البيان الكويتية تحت عنوان " سفر وشعر وقبر الحلاّج " ، وفي عام 1985 يلقي محاضرة في جامعة صلاح الدين عن الحلاّج في الأدب المقارن ، وبعد أربعة عشر عاماً يعود ليلقي محاضرة جديدة في ملتقى آل المخزومي عن ماسينيون والحلاّج .
حين ودع الشيبي الحياة صباح يوم الرابع من أيلول العام 2006 كنت واحداً من القلائل الذين تشرفوا بحمل جسده المسجى على سريره في غرفة نومه إلى التابوت في صالة بيته ، إلى جانب ولده د . طريف وأفراد الأسرة الكريمة ، حدث ذلك بعد مضي ثلاث ساعات على عروج روحه إلى بارئها في ذلك الصباح البغدادي الحزين الذي كانت فيه عاصمة السلام تعيش أيام الخوف والقتل العشوائي والرعب والجثث الملقاة في مكبات النفايات وعلى أرصفة الشوارع ، وكان فرانكشتاين السعداوي يومها يتلذذ بتقطيع جثث ضحاياه وتركيبها من جديد .. ومضت السيارة التي حملت جثمانه مسرعة حيث مقبرة الشيخ معروف الكرخي ، ليدفن قريباً من قبور ومقامات أقطاب التصوف في بغداد ، الكرخي والسري السقطي والجنيد والحّلاج .
في العام 1976 طُلب الينا نحن طلبة قسم الفلسفة التوجه إلى قاعة كلية اللغات المجاورة للاستماع إلى محاضرة في الفكر الفلسفي الإسلامي يلقيها استاذ الفلسفة الإسلامية الزائر الباحث والمفكر المصري الدكتور علي سامي النشار صاحب الكتاب الشهير" نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام " بأجزائه الثلاثة ، وقدمه في تلك المحاضرة تلميذه القديم الدكتور كامل مصطفى الشيبي الذي فوجئ بالضيف يصفه بوصف مبجل ، وحاول الشيبي مقاطعة النشار، وقد عظُم عليه - وهو لم يزل آنذاك في التاسعة والأربعين من عمره - أن يوصف بذلك من قبل النشار شيخه العقلاني وأخيه الروحاني ، وراح يتمتم بكلمات تدل على تواضعه الإنساني والعلمي الذي عرف به ، على الرغم من جهوده الكبيرة في مجال الفكر الإسلامي والتصوف التي ذاع صيتها بين القاصي والداني ، والتي عناها النشار بذلك الوصف ، غير إن الشيبي لم يكن ليتصور إنها مهمة إلى الدرجة التي تدفع بشيخه ، وتلميذ الشيخ الأزهري المجدد مصطفى عبد الرازق ، أن يسبغ عليه في تلك المحاضرة ، لقب " شيخ الإسلام " .
ولم يكن غريباً على شخصية علمية مثل الشيبي أن يتواضع أمام هذا الوصف الذي عدَّه مجاملة عابرة ، فالرجل كان في قمة نشاطه وحيويته ، وقد بلغت شهرته آفاقاً أكاديمية واسعة ، وبنى شخصيته العلمية بناءً رصيناً منذ حصوله على ليسانس الآداب بجامعة الإسكندرية عام 1950، ثم إعداده للماجستير في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة وحصوله على ماجستير فلسفة من الإسكندرية عام 1958 عن رسالته الشهيرة " الصلة بين التصوف والتشيع " تحت إشراف الدكتور أبو العلا عفيفي ، ونيله بعد ثلاث سنوات شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من جامعة كمبردج البريطانية تحت إشراف المستشرق الشهير آرثر جون آربري ، ليعود بعدها إلى بغداد مدرساً في كلية الآداب العام 1961 .
وفي حياته الشخصية يختار بعد سنة من التدريس في قسم الفلسفة بكلية الآداب ، طالبة من طالباته لتكون شريكة حياته ، هي السيدة الفاضلة سماحة نفطجي التي رافقته في رِحلة عمره ، ليعيشا معاً 45 عاماً بحلوها ومرها ، رزقا خلالها بولدهما الوحيد د . طريف وشقيقته السيدة ندى عقيلة الكاتب المهندس أحمد هاشم الحبوبي . وانتهت تلك الرحلة الطويلة والعصيبة في الكثير من سنواتها ، صبيحة ذلك اليوم البغدادي الحزين برحيل الشيبي جسداً ، وبقيت روحه تواصل الهامها لمن عرفه حق المعرفة ، وسبر أعماق شخصيته التي خلدتها أعمالها وآثارها الباقية في دنيا الفناء . وهذه باقة متكاملة من آثاره ومؤلفاته عدا العشرات من الدراسات والمقالات المنشورة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ، والمحاضرات والمداخلات في الكثير من الملتقيات الفكرية والتراثية والفلسفية :
1– الصلة بين التصوف والتشيّع ، ط1 في جزئين ، بغداد 1963-1964. ط2 ، في جزء واحد ، دار المعارف بمصر 1969. ط3 ، في جزئين ، دار الأندلس ، بيروت 1982 . وقد تُرجم هذا الكتاب إلى الفارسية ترجمة ملخصة بقلم الأستاذ الدكتور علي اكبر شهابي ، ونشرته جامعة طهران 1975 .
2 – الفكر الشيعي والنزعات الصوفية حتى مطلع القرن الثاني عشر الهجري ، مكتبة النهضة ، بغداد 1966 . وطُبع طبعة ثانية كجزء ثان للكتاب السابق تحت عنوانه المذكور ، بيروت 1981 . وقد تُرجم إلى الفارسية بقلم الأستاذ علي رضا ذكاوتي قراكُزْلو وطُبع ضمن منشورات " أمير كبير " في طهران 1980 ، وأُعيد طبعه 1995 .
3 – ديوان أبي بكر الشبلي ، مع مقدمة طويلة ، مطبعة التضامن ، بغداد 1967 .
4 – الطريقة الصفوية ورواسبها في العراق المعاصر ، مكتبة النهضة ، بغداد 1967 . وطبع حديثاً بجهود ومتابعة ولده د . طريف الشيبي ، وصدر عن دار الجمل تحت عنوان " الطريقة الصفويَّة وَرَواسِبها في العراق المعاصِر .. دراسة عامة للشبك والنحل الصوفية في شمال العراق " .
5 – ديوان الدوبيت في الشعر العربي في عشرة قرون ، منشورات الجامعة الليبية ، دار الثقافة ، بيروت 1972 . وكان الشيبي يعده واحداً من أهم مؤلفاته التي بذل فيها جهداً علمياً مضنياً ، تطلب منه مراجعة مئات المراجع والمصادر على امتداد ألف عام ، وقد حصل هذا الكتاب على جائزة " جمعية أصدقاء الكتاب " اللبنانية لأفضل كتاب صدر في ذلك العام .
6 – ديوان الحلاّج ، ط1 ، مطبعة المعارف بغداد 1974 ، ط2 ، مطبعة آفاق عربية ببغداد 1984 ، دار الجمل ، كولون ألمانيا 1997 . وصدرت طبعات لاحقة .
7 – شرح ديوان الحلاّج ، مكتبة النهضة ، بيروت 1974. وصدرت طبعات لاحقة .
8 – الحلاّج موضوعاً للآداب والفنون العربية والشرقية قديماً وحديثاً ، مطبعة المعارف ، بغداد 1976 . وصدرت طبعة حديثة ضمن منشورات الجمل .
9 – الفُلك المحمّلة بأصداف بحر السلسلة ، مطبعة المعارف ، بغداد 1977 .
10 – ديوان " الكان وكان " في الشعر الشعبي العربي القديم ، نُشر مسلسلاً في مجلة التراث الشعبي البغدادية ، ثم طُبع في بغداد 1987 .
11– الحب العذري ومقوماته الفكرية والدينية حتى أواخر العصر الأموي ، الموسوعة الصغيرة ، بغداد ، وأُعيد طبعه مع زيادات في بيروت ، دار المناهل 1997 .
12– صفحات مُكثفة من تاريخ التصّوف الإسلامي ، نشر دار المناهل ، بيروت 1997 .
13– ديوان فن القوما " من الشعر الشعبي القديم " ، نشر دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 2001 .
14– أصداء وملامح عربية وإسلامية في رواية دون كيخوته لثربانتس ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 2002 .
15– ديوان السهروردي المقتول ، دار المنتخب العربي ، بيروت 2002 .
16– البهلول بن عمرو رائد عقلاء المجانين ، المكتبة العصرية ، بغداد 2004 .
رحم الله أستاذنا الدكتور كامل مصطفى الشيبي في ذكرى رحيله ، ونفع الناس بعلمه ، وأبقى ذكره العطر مع أعلام الباحثين الثقاة الذين أعطوا للحياة عصارة فكرهم ، وعظيم جهدهم ومثابرتهم ، وتركوا لنا إرثاً ثميناً تعجز عن محوه تقلبات الزمان ، وتداول الأيام .
ملاحظة : مرفق صورة للأستاذ الدكتور كامل مصطفى الشيبي .
+ صورة للكاتب مع الشيبي بعدسة الفنان الفوتوغرافي زياد تركي .
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.