محمد نجيب .. هل كان كذبة ؟
في صفحة من صفحات مذكراته التي ظهرت طبعتها الأولى في سبتمبر 1984 عن المكتب المصري الحديث ، يروي الرئيس المصري الراحل محمد نجيب ، هذه الحكاية المؤلمة :
( فثمن البقاء في السلطة كان دائماً دماء أبناء مصر ودماء خيرة شبابها .. وكان إبني فاروق أحد هؤلاء الشباب .. تعذب فاروق وهو صبي صغير نفسياً ، وتعذب جسمانياً وهو شاب ورجل .. فعندما جئنا الى معتقل المرج ، جاء اليَّ فاروق ، ليسألني في إهتمام شديد : أبي هل صحيح أنك كنتَ رئيساً للجمهورية ؟
وتعجبتُ للسؤال .. لكني أبتسمت لفاروق ، وداعبته ، وقلتُ له : نعم يابني .. لكن مالذي جعلك تسأل هذا السؤال .. هذا تاريخ مضى وأنقضى .
ولمحتُ دموعاً حائرة في عيني الصبي ، وهو يقدم لي كتاباً في المطالعة ، جاءت فيه هذه العبارة : ” وجمال عبد الناصر هو أول رئيس لجمهورية مصر ” . رَفَعتْ المطابع أسمي من كافة الكتب .. شطبوا إسمي من التاريخ .. وزوروا التاريخ .. بل وحاولوا أن يتعاملوا معي كأنني لم أوجد ولم أولد وكأنني كذبة أو خرافة أو إشاعة ) !
لذلك قد يتخيل الكثير من المنصفين والمؤرخين الرئيس محمد نجيب وهو يتململ في قبره غبطة وطمأنينة وسروراً لإطلاق إسمه على القاعدة العسكرية المصرية التي افتتحت قبل عامين في مدينة الحمام بمرسي مطروح وبعد 65 عاماً من تغييب الرجل ، يوم أن خرج من قصر عابدين في 14 نوفمبر 1954 الى معتقل المرج ، فيلا زينب الوكيل ، حرم النحاس باشا ، بعد أن قال له عبد الحكيم عامر ان اقامته فيها لن تزيد عن بضعة أيام ، لكنه بقي فيها حوالي 29 سنة ، الى أكتوبر 1983 !
لقد تمنى نجيب في مذكراته لو أنهم عاملوه لحظة التخلص منه كما عاملَ هو الملك فاروق ( ودعناه بالاحترام وودعوني بالإهانة .. ودعناه بالسلام الملكي والموسيقى .. وودعوني بالصمت والإعتقال ) ، وآلمه أن يُضرب ويُهان ويُشتم ويتعرض للموت في حادث إختطافه عام 1956 ، وأن يُعامل كأنه لص أو مجرم أو شرير ، وأن يُشطب اسمه من كتب التاريخ فلم يُصدق أطفاله انه كان رئيساً لمصر ، وأحزنه أن يموت إبنه الأكبر بعد الاعتقال ، ويموت الأوسط مقتولاً في ألمانيا ، ويُطرد الثالث من عمله بقرار جمهوري ، لكن الأغرب والأكثر ألماً من ذلك كله أن يصل الإفتراء الى حد اشاعة خبر وفاته ، وانه يسمع بإذنه هذا الخبر من اذاعات العالم ، بل ويقرأ في كتاب وضعه كاتب اسرائيلي ان محمد نجيب توفي عام 1966 !
( وبعد كل مرة كان ينتشر مثل هذا الخبر في العالم ، كانت برقيات التعزية تصل الى المرج ، والطريف أنني كنت أقرأها بنفسي ) !
ولعل من المواقف الوطنية الكبيرة والشجاعة التي يذكرها التاريخ لهذا الرجل هو إرساله خطاباً وهو مختطف في مكان مجهول الى الرئيس جمال عبد الناصر أثناء العدوان الثلاثي على مصر يريد منه أن يسمح له بأعز أمنية وهي المشاركة في أقدس واجب وأشرفه هو الدفاع عن مصر ( والتطوع جندياً عادياً في جبهة القتال بأسم مستعار وتحت أية رقابة شئتَ ، دون أن يعلم أحد بذلك غير المختصين ، وإني أعدك بأثمن ما أملك ، أعدك بشرفي أن أعود الى معتقلي اذا بقيت حياً بعد إنتهاء القتال . وبذلك تغسلون مالحق بي من آلام ) .
مذكرات محمد نجيب التي جاءت في طبعتها الأولى بـ 420 صفحة ، سجلٌ نادر من المواقف والآلام والمصاعب ، والأفراح والأحزان ، والشعور بالأسى والخيبة والخذلان ، أتمنى أن يقرأ تفاصيلها كل قارىء ، وكل سياسي وعسكري عربي ، لاسيما وأن بعضهم قد يكون سمع بأسمه للمرة الأولى بمناسبة افتتاح قاعدة محمد نجيب العسكرية في مصر ، وربما تساءل مع نفسه : من يكون محمد نجيب هذا ؟!
ويوم بدأ محمد نجيب حياته العملية في الخرطوم بالتحاقه ضابطاً في الجيش المصري يوم 19 فبراير 1918 وكان عمره 17 عاماً ، وحتى رفع القيود عنه تماماً عام 1971 والى حين وفاته في 28 أغسطس 1984 عن عمر ناهز 83 عاماً ، فأنه لم يكن يتخيل يوماً ماجرى له من حيفٍ وتجاهلٍ ونكرانٍ ونسيان ، وماتعرض له من تشويه وأكاذيب وشماتة وافتراءات ومراقبة وتنكيل من رفاق دربه ، ومحاولات لمحو إسمه من الأذهان .
( إن كل المحاولات التي جَرت لينساني العالم قد ذَهَبتْ هباءً ) .
وكأن تلك الكلمات التي قالها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في تخريج دفعات جديدة من الكليات والمعاهد العسكرية ، وإفتتاح أكبر قاعدة عسكرية في الشرق الأوسط حملت إسم الرئيس الراحل محمد نجيب كانت موجهة لمحمد نجيب قبل غيره ( تكريماً لإسهامه الوطني وبرهاناً على وفاء مصر لإبن من أبنائها تصدى للعمل الوطني في لحظة دقيقة وفارقة ، فلم يتردد لحظة وإنما أظهر من الشجاعة والبطولة ما يستحق معه ان نتوقف أمام اسمه بالتقدير والإحترام ) .
إسترح الآن في قبرك بعد هذا الإنصاف ، فقد قلتها يوم كتبتَ مذكراتك ( يمكنني الآن أن أموت وأنا مستريح البال والخاطر .. والضمير ) .
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.