خمسون عاماً على وصوله باريس
وهو يعتزم إحياء الذكرى 50 لوصوله إلى باريس
كاظم المقدادي يطارد خيط دخان
يعتزم الدكتور كاظم المقدادي زيارة باريس نهاية العام 2023 لإحياء الذكرى الخمسين لوصوله إلى عاصمة النور ، مدينة الحب والنساء والليل ، نهاية العام 1973 ، وفي هذه المدينة التي تضج بالحياة والتناقضات الفاضحة ، أمضى 14 عاماً متواصلاً ، منها 12 عاماً عاشها عازباً متفرغاً للدراسة والصحافة والحب .... ومطاردة الشقراوات الباريسيات ! .
وبعد ما يقرب من عشر سنوات على وصوله العاصمة الفرنسية ، أصدر المقدادي كتابه " أوراق باريسية " الذي يُحسبُ على أدب أو صحافة الرِحلات ، وهو من منشورات العالم العربي في باريس ، دَّون فيه انطباعاته ومشاعر اغترابه المريرة ومخاوفه وقلقه ومغامراته وانجازاته خلال تلك السنوات التي قضاها في المقارنة بين حضارة عريقة جاء يحمل مجدها وتاريخها ، وبين ما يشاهده من تناقضات باريس ، ومنها نظرة الفرنسيين العنصرية للعرب ، وسوء نظرتهم للعمالة الأجنبية ، وفي مقدمتها العربية ، وعلى وجه الخصوص العمالة القادمة من المغرب العربي : " فالقوم لا يحبون الأجانب .. ولا يركنون اليهم .. وكثيراً ما يتضايقون من وجودهم في المعامل والمقاهي والمطاعم وأماكن الفراغ واللهو ! " . وأول ما يبدأ به المقدادي استرجاعه للمشاهير العرب الذين قضوا في باريس شطراً من حياتهم ، ومنهم رفاعة رافع الطهطاوي صاحب كتاب " تخليص الإبريز في تلخيص باريز "، وتوفيق الحكيم في كتابه " عصفور من الشرق " ، وسهيل ادريس في روايته " الحي اللاتيني " ، ويحيى حقي في " قنديل أم هاشم " ، والطيب صالح في " موسم الهجرة إلى الشمال " ، وكلها تعالج المشكلة نفسها ، مشكلة علاقة الشرق بالغرب القائمة على اختلاف المفاهيم الحضارية والثقافية والموروثات الاجتماعية ، وصعوبة تقبل الشرقيين للحياة الأوروبية ، وبالذات فيما يتعلق بحرية المرأة . وعندما هبط في مطار اورلي ، كان لا يعرف من الفرنسية كلمة واحدة ، لكنه سرعان ما تشجع للحديث مع القوم بلغة جيرانهم " الانكليزية " ، لكنهم لا يحبذون الحديث إلا بلغتهم ، لاعتقادهم إن على الآخرين تعلمها ، لأنها أصبحت لغة عالمية ، فحاول تعلم بعض الكلمات في الأشهر الأولى ، وكانت تجربة : " شاقة وعسيرة لأن هذه اللغة .. لغة صعبة لا يدري من أين تخرج حروفها ، من الفم .. ام حافة اللسان .. ام من المنخارين ؟ " . ولطالما وقع في مواقف محرجة وطريفة في بداية محاولته لتعلم الفرنسية ، ومنها ما واجهه مع سيدة في مكتب اقامة الأجانب ، فهمت من لغة الإشارة بأنه قد تزوج في فرنسا ، وهو يصرخ ليوضح لها : نو نو والله نو ! .
" صاحبنا " يغني : حبك نار!
وفي أحد الأيام يقترح على زملائه في الدراسة السفر إلى فرساي ، وهي من ضواحي العاصمة ، على أن يحمل كل واحد منهم أشهر الأكلات الوطنية في بلدانهم ، وكانوا طلبة من اسبانيا وايطاليا والمانيا والنرويج والدنمارك وبولونيا ، ومن اميركا والمكسيك ، جاءوا بأكلاتهم الوطنية ، وجاء " صاحبنا " بأكلة " الشيخ محشي " و " الكليجة " . وفي فقرة الغناء من كل بلد ، أدى أغنية " فوق النخل فوق " مع أغنية عبد الحليم حافظ " حبك نار " ! . و " صاحبنا " هي الصيغة التي استخدمها المقدادي للحديث عن نفسه ، لكنه أسرف كثيراً في استخدامها : وظل صاحبنا .. يؤرق صاحبنا .. وفرح صاحبنا .. انتبه صاحبنا .. وشاهد صاحبنا .. وهمس صاحبنا .. عقد صاحبنا .. شغلت صاحبنا .. ويقترب صاحبنا .. ويعرف صاحبنا ..... الخ . حتى أحصيت له أكثر من 184 " صاحبنا " وردت في صفحات كتابه التي لا تزيد عن 129 صفحة من القطع الوسط . ولو فكر في طبعة جديدة لكتابه لأجرى بالتأكيد تعديلاً أو تقليلاً لعدد مرات استخدام هذه الصيغة التي لا أعرف سبب تفضيله لاستخدامها .. ربما لاعتقاده بأنه – إذا لزم الأمر المحاجَجة - لا يقصد نفسه في بعض المواقف ، إنما " صاحبنا " ! .
" ويتذكر صاحبنا ايامه الأولى في باريس .. وكيف خرج في صباحات اكتوبر باحثاً عن وجه باريس " ، ليتعرف بمرور الأيام على هذا الوجه في نهر السين وبرج ايفل وشارع فيكتور هيجو ومحطات المترو وكنيسة نوتردام وحدائق اللوكسمبورغ وتويلري والحي اللاتيني وحي سان جرمان وحي مونبرناس ومتحف اللوفر ومركز جورج بومبيدو الثقافي " بُوبور " وساحة الكونكورد وقصر الاليزيه وشارع الشانزليزيه وجامعات السوربون السبع وساحة الهال وحي الرسامين في مونمارتر وساحة تروكاديرو ومقاهي جورج سانك ولوديبار ودوفلور وكلوني ولوتريوم ولوباري وحوانيت الجنس في بيغال وبارباس وسان دوني وساحة بانتيون حيث مقبرة العظماء أمثال روبسبير وفولتير وجان جاك روسو وجون جيرس وجان مولان وفكتور هوغو وقصر شايو الذي شهد رقصة هتلر الشهيرة زمن الاحتلال . كان يجلس في المقاهي الجميلة المطلة على برج ايفل ويراقب فتياتها الجميلات ، وعند صعوده البرج أول مرة التقى مع سائحة امريكية ظلت طريقها فاهتدت اليه ، وأخذ يحدثها عن فلسطين والمؤامرة العالمية وعن شدة حنينه إلى وطنه العربي الكبير ! فقالت له : ان جسدك في باريس .. وقلبك في بغداد .. ولم يفصح لنا المقدادي ماالذي جرى بينهما بعد ذلك ، لكنها تركته حالاً بالتأكيد ! .
لقد شغلته المشاهد اليومية الباريسية : العمال المهاجرون وحياتهم البائسة ، زواج العرب من فرنسيات وما ينتج عنه من مشكلات ومنغصات ، باعة الهدايا من الزنوج الافارقة ، الباريسيات المتمردات في ليل باريس ، مشاهد محطات المترو والمشردين " الكلوشار " ، العمال العرب الذين يقومون بتنظيف الارصفة : " هؤلاء كانوا يحملون السيف والرمح .. وهم الآن يصولون محطات المترو بمكنسة قذرة ! " ، السياح العرب في الأسواق ومحلات اللهو والمراقص والمطاعم ، والقليل النادر منهم في المتاحف ، تبادل القبل الحارة والعناق الطويل على مرأى المارة في حديقة اللوكسمبورغ ، والممارسة الجنسية على الطريقة الحيوانية في غابة البولون ، حكاية الكلاب البرجوازية المدللة والكلاب الفقيرة . لكن صاحبنا لم يعد ينتبه إلى هذه المظاهر اليومية ، لمعرفته بأنها تكشف عن الوجه الآخر لهذا الانسان التائه في المدن الكبيرة .
ويسأل اراغون : هل تتذكر الزا ؟
عدا ذلك فإن : " باريس هي حقاً عاصمة الفن والثقافة . عاصمة الضوء والجمال .. عاصمة اللون والحركة والحياة " وقد عرف المقدادي كيف يستثمر السنوات العشر الأولى لوجوده فيها ، بإنجازات صحفية متميزة حققها بمثابرته وذكائه وجرأته وموهبته ، فقد قابل بفضل اقامته الباريسية الكثير من الزعماء السياسيين ، واجرى معهم أحاديث صحفية مهمة أمثال جاك شيراك وبيار موروا وميشيل جوبير وجان بول شوفنمان وريمون بار ، وكذلك بعض المستشرقين الفرنسيين الذين يتعاطفون مع العرب ومنهم جاك بيرك وروجيه غارودي وفنسان مونتاي وبيار روسي واندريه مايكل ، وكاد أن يقابل اندريه مالرو وزير ثقافة ديغول لولا موته المبكر – توفي مالرو عام 1976 عن 75 عاما ً- لكنه نجح في مقابلة الشاعر الفرنسي الكبير اراغون ، بل واستطاع بفضل خادمة الشاعر أن يعقد صداقة خاصة معه ، حتى سمح له ذات يوم برؤية غرفة الزا حبيبته التي كتب لها معظم قصائده ، وقد سأل المقدادي اراغون يوماً : هل تتذكر الزا ؟ فأجابه : فلماذا أتذكرها .. اننا نتذكر الناس الذين يعيشون بعيداً عنا .. لكن الزا دائما معي !! . " وقال اراغون عن أول لقاء له مع الزا .. هي أو أقتل نفسي ! . كما ارتاد المقدادي المسارح وصالات السينما ، وكذلك المقاهي التي يرتادها العرب والعراقيين ، ومنها مقهى " كلوني " المفضلة عند المثقفين العرب ،وقد التقى فيها بعدد منهم أمثال الشاعر عبد الوهاب البياتي وأدونيس ويحيى حقي وعبد المعطي حجازي وأمير اسكندر ومحمود العالم والفريد فرج ، ومن الشعراء العرب من كتب قصائد عديدة في مقاهي باريس مثل الشاعر سامي مهدي الذي ولدت بعض قصائده في مقهى " لوتريوم " وسط شارع سان جرمان ، وكانت مقهى " لوباري " المكان المفضل لصلاح الدين البيطار : " أما عرب المال والنساء ، فهم يفضلون مقهى " الفوكيت " في الشانزليزيه .. وهي مقهى المواعيد ! ومقهى الذكريات الخاصة " . وتحت عنوان " حروف عربية " يتحدث المقدادي عن هجرة الصحافة العربية إلى باريس ، من الهجرة الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، محمد عبده وجمال الدين الافغاني وجريدتهما " العروة الوثقى " ، واديب اسحق وجريدة " مصر القاهرة " ، تبعه ابراهيم المويلحي صاحب جريدة " أبو نظارة " ، إلى الهجرة الجديدة في سنوات الحرب الاهلية اللبنانية ، وصدور مجلات " المستقبل " و " الوطن العربي " و " منشورات العالم العربي " . وكذلك معارض الخط العربي ، ومنها معرض الفنان العراقي المقيم في باريس الدكتور عبد الغني العاني الخطاط ، وهو أول خطاط عراقي يحصل على اجازة العمل من الخطاط التركي الشهير حامد الآمدي ، وكذلك من استاذه هاشم الخطاط ، ومعارض محمد سعيد الصكار التي جذبت جمهوراً كبيراً من الباريسيين ، وتنتهي أوراق المقدادي بمقال " وطن العين " الذي يعلن فيه أنه لم يضل الطريق أبداً : " وهو عندما قدم إلى أكبر مركز حضاري وحشر نفسه وسط مجتمع متحضر لم ينس أبداً انه ينتمي إلى أول مدينة علمية عرفها التاريخ الوسيط هي بغداد منارة الشرق والغرب " .
خريف القُبلة الباريسية
ولو قدر للمقدادي أن ينفذ ما عزم عليه ، فإنه سيصل العاصمة الفرنسية في تشرين الأول / اكتوبر من العام 2023 ، وهو من أشهر الخريف ، وهو أيضاً الشهر نفسه الذي هبط فيه بمطار أورلي لأول مرة ، لذلك فإنه يعشق الخريف ، الذي عاشه تلك السنة في باريس وهو في ربيع عمره وعز شبابه . وفي ذلك الخريف البعيد ، قصد قوس النصر الذي بناه نابليون في شارع الشانزليزيه ليحتفل مع المحتفلين برأس السنة الميلادية ، وقد تملكه شعور بالغربة والمرارة ، ورغبة بتقليد القوم في تبادل القُبَل مع الفتيات الباريسيات لكن على طريقته الخاصة : هل ياترى سيقبلون قُبلة هذا العربي الذي ينعتونه يومياً بالإرهابي .. والوسخ ؟ . ظل صاحبنا يراوح في مكانه .. بين الجرأة .. والخجل .. وتقدم إلى فتاة حسناء كانت تبحث عن صديقها .. فبادرها . " سنة سعيدة يا آنستي " .. وقبَّلها ومضى بسلام ! . وكانت هذه هي قبلته الأولى في ديار الغربة ، التي يبدو أنه أحب من أجلها فصل الخريف ، وقد يجرؤ حين يعود إلى باريس بعد ثلاث سنوات على تكرارها وهو في خريف العمر ! .
يكتب المقدادي في السنوات الأخيرة رسالة إلى صديقة صحفية عراقية تعيش في العاصمة الفرنسية منذ عقود : لا جدال .. فأنت ربيعية الهوى لأروع الفصول ، أما أنا فقد عشقت الخريف فصلاً ، صورة ، ومعنى ، فليس هناك من شهر يفعمك بالغرابة والمشاعر غير الخريف ، ولا شهر يأخذك إلى أبعد نقطة من رومانسية وجاذبية الأرض ، غير هذا الفصل الغرائبي المكنون بالأسرار والإبهار . وكم سألتُ نفسي : لماذا غادر الرسامون الانطباعيون ، رينوار وسيزان ومونيه بيوتهم ، يراقبون في الهواء الطلق حركة الطبيعة بكل فصولها ، وتفاصيلها ، بدفئها وثلوجها ، وهيجانها وهدوئها ، ثم يضعون الألوان على ثغور أشجارها ؟ . الخريف يا صديقتي ، يذكرني بباريس يوم قدمتها في شهر اكتوبر حائراً ، متوسلاً ، كي تمنحني حياة جديدة ، كان ذلك في عام 1973 ، وهو شهر خريفي بامتياز .
الحب المستحيل
قلبُ المقدادي ينبض دوماً في بغداد ، حتى حين يفارقها " على الكراهة بين الحين والحين " ، ومدن الأرض كلها من باريس إلى اسطنبول التي أقام فيها قبل عامين ونيف ، لا تعادل امسية يقضيها على نهر دجلة ، متبضعاً في أسواق الكرادة الشرقية ، ومسامراً في نادي العلوية ، أو جالساً بين شلة أصدقاء وأحبة في مقهى رضا علوان ، أو متجولاً في صباحات الجمعة بين شارع المتنبي ومقهى الشابندر أو مقهى خان المدلل . وكان حريصاً على العودة السريعة من اسطنبول ليكون من أوائل المشاركين في تظاهرات واحتجاجات تشرين الأول العام الماضي ، كما فعلها يوماً في شبابه الباريسي حين أفزعته أصوات المتظاهرين ، ومرت التظاهرة الكبيرة أمام عينيه : " لم يعرف عنها شيئاً ، ولم يتأكد من هويتها ، غير أنه شاهد فيها الحرف العربي يتألق وسط يافطة كبيرة رفعتها ايدي العرب في الغربة .. لم يتساءل كثيراً .. لم يتأخر لحظة واحدة .. وها هو في وسط التظاهرة " ! .
رفض المقدادي دعوة وجهت له قبل عامين للذهاب إلى باريس – لاجئاً هذه المرة - ، وفضل أن يكون مقيماً في مدينة لا تبعد عن بغداد كثيراً بالسفر جواً ، ليكون جاهزاً تماماً للعودة إلى الوطن في أي وقت يشاء . وفي اسطنبول حيث يقيم ، يطل مسكنه على خليج القرن الذهبي ومضيق البوسفور ، وخلفه تلة الحب المستحيل على " جبل أيوب المقدس " وقد سميت على اسم " بيير لوتي " الروائي والصحفي والعسكري الفرنسي المتوفي عام 1923 ، الذي عاش في اسطنبول وأحبها ، وتعلق بفتاة تركية مسلمة حتى صار يقول ان روحه نصفها شرقي ، لكنه الحب المستحيل .
منذ وعيه الاول ، كان المقدادي شغوفاً بالمكان والناس والنهر وبغداد ، هو الآن يمتلك بحراً وخليجاً ومضيقاً ، لكنه مازال يبحث عن امرأة .. وحب .. ووطن . فقد : " ظل يصرخ طوال حياته .. المرأة هي الوطن .. وعندما يجد امرأته يجد وطنه " .
لعله سيعرف بعد رحيل العمر ، انه – مثل نزار قباني – كان يطارد خيط دخان ! .
مع المادة 3 صور :
1 – صورة الغلاف .
2 – المقدادي مع احدى الحسناوات امام برج ايفل .
3 – احدث صورة للمقدادي في مقهى رضا علوان ، وعدسة محمد خليل كيطان .
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.