الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع
أحاديث برقاش ووصية هيكل
مرت قبل يومين السابع عشر من « فبراير – شباط «، الذكرى السابعة لرحيل اسطورة العرب الصحفية الأستاذ محمد حسنين هيكل بعد عمر طويل ناهز الثالثة والتسعين عاماً مخلفاً ارثاً مهنياً طويلاً يحتذى به وتجارب صحفية مثيرة تليق بحامل راية السلطة الرابعة في أسمى معانيها الأخلاقية والسياسية والمهنية، وعلى الرغم مما تعرض له هيكل من نقد وربما تجريح حاول النيل من مكانته وأدواره التي لعبها وبالأخص أثناء حقبة ازدهاره في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ، بل وتكذيب بعض مروياته ومعلوماته التي جاءت في أحاديثه ومقالاته وكتبه، لكنه « لم يكن يهتم كثيراً بأي حملات ضده محتذياً الحكمة الصينية: قل كلمتك وامشٍ».
وقد صدرت عن هيكل قبل وفاته وبعدها مئات المقالات وعشرات الكتب التي تحدثت عن وجهات نظر كتابها ومؤلفيها في شخصيته وعن حياته الصحفية والسياسية ومقالاته وكتبه ودوره في الأحداث الكبرى التي شهدتها مصر والبلدان العربية على امتداد عقود غطت النصف الثاني من القرن العشرين بأكمله وبدايات القرن الحادي والعشرين، غير أن من أكثرها اثارة وعمقاً وقرباً إلى هيكل الحقيقي انساناً وصحفياً وسياسياً وكاتباً ومتحدثاً، هو ذلك الكتاب الذي صدر بعد عام على رحيله وحمل عنوان « أحاديث برقاش .. هيكل بلا حواجز « للكاتب الصحفي عبد الله السنّاوي القريب من هيكل في سنواته الأخيرة، والمُطَّلع بحكم علاقته الاستثنائية معه على الكثير من أسراره وخباياه، وما تبقى من أوراقه الخاصة ووثائقه المهمة بعد أن التهمها الحريق يوم فض اعتصامي «رابعة العدوية» و»النهضة»، وكانت تلك الوثائق التي طالتها يد الحريق والعبث والتدمير ضمن مقتنياته في برقاش حيث بيته الريفي على ترعة المنصورية الذي اقتحمته مجموعات مسلحة في يوم 14 أغسطس - آب 2013 : « قرب الظهيرة اقتحمت مجموعات مسلحة الباب الرئيس لبيته، الذي لا يوجد عليه ما يشير إلى صاحبه، بعد أن أحرقت بزجاجات المولوتوف حديقته الأمامية. أخذت تدمر كل ما فيه من أثاث ولوحات وذكريات، أحرقت حدائقه بأشجارها ونباتاتها، واستحال البيت أطلالاً تساقطت جدرانه بتفجيرات أنابيب الغاز. لم تكن هناك شرطة تردع، فمقراتها تعرضت لاعتداءات في موجة عنف شملت دور عبادة وعدالة ومنشآت عامة ومباني حكومية «. ويضيف المؤلف وهو يصف ما تعرض له بيت هيكل الريفي في برقاش بالقول: «كان ذلك عملاً همجياً تجاوز الرجل إلى الذاكرة العامة. فمن بين ما حرق عشرات ألوف الوثائق المصرية والغربية التي تروي قصة الصراع على مصر والعالم العربي بعد نهايات الحرب العالمية الثانية».
في « أحاديث برقاش» سلسلة حوارات شائقة امتدت لستة عشر عاماً متصلة، كشف فيها عبد الله السنّاوي الكثير عن شخصية هيكل دون أي حواجز منذ بداية حياته الصحفية في الأربعينيات والقرارات التي اتخذها ومنها قرار مغادرة الأهرام قبل إقالته من السادات، وقصة اللقاء مع شارل ديغول، وكيفية حصوله على وثائق فائقة السرية من أرشيف السفارة الأمريكية في طهران، وغيرها ذلك من الحوادث المثيرة ومنها تسجيلات « الدكتور عصفور» وهو الاسم الذي أطلقته المخابرات المصرية على عمليتها التي حصلت فيها على تسجيلات صوتية من داخل السفارة الأمريكية بالقاهرة بين السفير الأمريكي دونالد بيرجس والوزير المفوض في السفارة الأمريكية بتل أبيب، بدت فيها فكرة التخلص من عبد الناصر بالسم أو بأي وسيلة أخرى، وقد أطلقت المخابرات تلك التسمية على عمليتها تشبهاً بحركة العصافير، التي تتناقل بين الأشجار الشاهقة، كناية عن تمكنها « من زرع ميكروفونات حديثة في مدخل السفارة وصالونها وغرفة الطعام والبهو الأعلى في مبناها».
يكتب السنّاوي: في يناير 2001 رسم الفنان الشاب أدهم لطفي صورة تخيلية لعبد الناصر في الثالثة والثمانين – عبد الناصر من مواليد 1918- ، أو ما كان يمكن أن تكون عليه ملامح وجهه لو امتد به العمر. أطل «هيكل» في المرآة ليرى على وجهه أثر علامات السنين، وفرت دمعة من عينيه مفتقداً رجلاً مات منذ زمن طويل « كان شعوري غريباً خلال ساعات الرحيل الحزينة : كيف رحل .. ولم أرحل معه ؟ « كما كتب بمشاعره.
لم يكن هيكل يشعر بأنه الأقل شأناً أمام أحد من كبار القادة والزعماء والسياسيين طيلة حياته، فهو الأستاذ والصحفي والكاتب الذي يبقى ويذهب الآخرون بكراسيهم ومناصبهم وألقابهم وتيجانهم وصولجاناتهم وعروشهم، كان يمتلك كبرياء الفرسان وأنفة الرجال الذين لا يظهرون ضعفهم للناس حتى انه لم يسمح لأحد بزيارته على فراش المرض باستثناء عدد محدود من أسرته وأبنائه، وتتجلى هذه الكبرياء في وصيته التي أودعها عند رفيقة حياته السيدة هدايت علوي تيمور، أو في تلك الأمور الإضافية التي املاها وهو ينازع الروح على نجله الأكبر علي، أو تلك التي وردت في « رسائل إنسانية لأصدقاء أقلقهم التدهور السريع في حالته الصحية ولم يتسن له أن يلقي عليهم نظرة وداع «. لم يكن يريد أي علاج على نفقة الدولة، أو في أحد مستشفياتها، ولا يريد جنازة عسكرية.
« كيف رحل .. ولم أرحل معه ؟ «. ومضى هيكل في نهاية المطاف متأخراً 46 عاماً على رحيل عبد الناصر.
تم نشرها في -
الدكتور طه جزاع
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.