مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

الحّلي .. هاجر طبيباً وعاد أديباً

قيم هذه المقالة
(0 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email
الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع

 

كل شيء في حياته كان بالمصادفة المحضة كما يظنُ، وفي مركبها كان يتنقل مستسلماً لقدره الذي سيقوده من بلد إلى آخر ليستقر به المطاف أخيراً في العاصمة اليونانية أثينا التي وصلها وفي نيته أن تكون معبراً إلى بلد أوروبي حدده هدفاً لهجرته، غير أن للمصادفة رأياً آخر حين وجد في مدينة سقراط وأفلاطون وأرسطو منذ الساعات الأولى ما يجعله يتشبث بها طيلة عمره ويقضي فيها أحلى سنين شبابه ورجولته وعمله في المدينة وقراها النائية.

وحين يعود طبيب الأطفال رعد صادق الحلي إلى مدينته بغداد وقد تجاوز السبعين عاماً، فإنه يسترجع هجرة بدأت منذ منتصف السبعينيات حين توجه إلى لبنان للدراسة في احدى جامعاتها الأهلية لمدة سنتين، قبل أن تقوده الأقدار إلى اليونان لدراسة الطب في جامعة سقراط بمدينة سالونيك ثاني أكبر المدن اليونانية، ثم ليكمل في أثينا تخصصه في طب الأطفال ويعمل بعد تخرجه طبيباً في المركز الحكومي لرعاية الطفولة والأمومة، لتقوده خطاه – بالمصادفة أيضاً – للعمل في قرية جبلية اسمها « غارذيكي» تبعد 250 كم عن العاصمة، وفي هذه القرية اليونانية الجميلة يكتب الحلي سطور أعز تجربة من تجارب حياته، ليدونها في كتابه «بالصدفة .. تجارب طبيب عراقي في قرى أوروبية» وهو كتابه الثاني بعد كتاب «أيسوبوس الفيلسوف المظلوم .. قصة حياته المثيرة و110 من أروع حكاياته الخرافية» الذي بقي يجمع مادته لأكثر من ثلاثين عاماً، ذلك أنه وجد في جلسة مع صديق يوناني خلال الأيام الأولى لوصوله إلى هذا البلد، أن من لا يعرف الحكيم أيسوبوس يتعرض للسخرية، فقرر منذ ذلك الحين أن يجمع حكايات هذا الحكيم الذي كان عبداً ثم اشترى حريته بحكمته وفلسفته وحكاياته الخرافية التي أجراها على ألسنة الحيوانات ليتعلم منها البشر الخير والفضيلة والقيم الأخلاقية، ومما زاد الحلي تمسكاً بتلك الحكايات أن صاحبها قد عمل مستشاراً عند ملك بابلي لمدة عشرين عاماً قبل أن يعود إلى بلاده ليموت مظلوماً مغدوراً.. وقد تركت حكايات أيسوبوس أثرها الواضح في شخصية الحلي الذي بدا وكأنه يفهم لغة الحيوانات من حركاتها وأصواتها ونظراتها.

كانت نزعة الكتابة والسرد تسري في دم الحلي، لذلك كان يدوّن في أوقات فراغه من عمله الطبي والإنساني سطوراً من روايات تعتمد على معلومات تاريخية يختزنها خياله عن عالمه الذي غادره وهو في مطلع شبابه، عالم بغداد الشعبي ومجتمعها، ساعدته على هذا العمل الأجواء الهادئة المنعزلة في القرية اليونانية، فكانت روايته «إرث الأفعى» التي تحكي عن الحاج شبوط التاجر البخيل الذي لم يكن إنساناً ودياً مع جيرانه ومع الآخرين، بل وحتى مع نفسه، إذ كره الحاج شبوط اسمه هذا حدّ الموت وكأنه مرض خبيث علق به، وولده توفيق الذي ورث عن والده ثروة ضخمة لكنها حولته إلى تاجر جشع، وفي أوقات الفراغ تلك استرجع الحلي أيضاً تاريخ هذه المدينة خلال الاحتلال البريطاني وبداية تشكل الدولة العراقية في العهد الملكي، فكانت روايته الطويلة «خلخال العشق» التي يصفها بأنها رواية حقيقية طرّزها الخيال، مفترضاً أن مس بيل التي أطلق عليها اسم «مسز جيل» الموظفة العالية الدرجة في السفارة البريطانية، كانت صادقة في أعمالها وآرائها ومعتقداتها حول استقلال العراق، ونقية السريرة في وفائها وحبها للعراقيين والعرب، وتأخذ الرواية طابعها الواقعي من الأماكن التي شهدت أحداثها مثل قاعدة الحبانية والبصرة وقلعة الفاو والقصر الملكي والسفارة البريطانية، ومن شخوصها مثل الملك مشعل الذي يحيل إلى الملك فيصل الأول، والملك فازي «غازي» والخادم عنبر والشريف ناصر والأميرة فريدة والشيخ ذياب.. كل هذا الأماكن والشخصيات وغيرها تجمعها أحداث شيقة صنعها خيال الحلي ببراعة لا تخل ولا تتناقض مع الحقائق التاريخية المعروفة لكن برؤية جديدة. غير أن الحلي لا يلبث أن يخصص رواية لما أتاح له عمله الطبي في اليونان أن يطلع عليه من أحداث وحكايات شخصية تتسم بالحب والوفاء، فجاءت رواية «ماريا اليونانية وعشقها العجيب» التي وقعت أحداثها في قرية جبلية نائية وسط اليونان في العام 1935 عندما كان الفقر يسود الكثير من بقاع أوروبا واليونان بالذات، وأجواء الحرب والمقاومة، ولم تكن هذه القرية سوى قرية «غارذيكي» التي ذهب للعمل فيها بالمصادفة العجيبة، فصار كأنه واحد من أبنائها، لطيبة أهلها وبساطتهم وكرمهم واعتزازهم بضيوفهم وبمن جاء يقدم لهم الخدمة الطبية في قريتهم تلك التي تتحول في الشتاء إلى قرية أشباح بسبب برودة الطقس وسقوط الثلوج الكثيفة.

يعود رعد الحلي إلى بغداد وقد أنهكته المصادفات بحلوها ومرها لما يقرب من نصف قرن، لكنه هذه المرة يعود بإرادته وتخطيطه وحنينه وذكرياته من دون مصادفات، ويعود أديباً أكثر مما هو طبيباً، بعدما جمع وراجع ما كان دوّنه لأكثر من ثلاثة عقود ليبدأ بطبعها منذ سنوات في بغداد، لكنه ما زال يحسب حساباً لمصادفة جديدة قد تغير مجرى ما تبقى من حياته الغريبة.

حكايات أيسوبوس الحكيم الخرافية كثيرة، وقد زادتها حكاية رعد الحلي واحدة أخرى، وهي حكاية لخصتها دموعه الغزيرة التي ذرفها فرحاً وانتشاءً في ملتقى السرد الذي احتفى به في المركز الثقافي البغدادي.

القراءات 71 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78631

حاليا يوجد 13 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions