مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

حُرَّاس الذاكرة البغدادية

قيم هذه المقالة
(1 Vote)
Print Friendly, PDF & Email
الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع

 

للمدن التاريخية العريقة روح وذاكرة وحنين مثل البشر تماماً، الفرق الوحيد أن روح المدن ساكنة، وذاكرتها صامتة، وحنينها سجين في جدرانها وأماكنها وأحيائها ومحلاتها وبيوتها، والزمان فيها «متجمد في المكان» على حد تعبير أحد كبار المتصوفة. وقد هيأت الأيام لكل مدينة حُرَّاساً، يكتبون تاريخها، ويوثقون تراثها، ويتناقلون فولكلورها وحكاياتها الشعبية المتداولة من جيل إلى جيل، ويحييون ذكرها عبر السنين، ولولاهم لفقدت المدن الروح والمعنى والذاكرة الحية. ومن حظ بغداد أن حُرَّاسها كثرٌ، وعشاقها أكثر، لا تخلو منهم حقبة من حقبها التاريخية، وأن روحها الشعبية وهويتها المحلية التي تبلورت بشكل خاص مع بدايات القرن العشرين، تتناقلها الألسن، وتوثقها الصور والكتب والبحوث والمقالات. ومن هؤلاء الحُرَّاس الباحث نبيل عبد الكريم الحسيناوي الذي دشن في قاعة المتحف البغدادي الموسم الجديد لمنتدى بغداد الثقافي في أمانة بغداد بمحاضرة عن درابين وأزقة الرصافة القديمة، ومنها درابين تحمل مسميات طريفة ارتبطت بمهن أو صفة أو أشخاص ظرفاء، أمثال دربونة أم الخرك، ودربونة النملة، ودربونة الصخلة، ودربونة الطنطل!.

نشأ الحسيناوي في محلة فرج الله وأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والاعدادية في مدارس الرصافة القديمة، وتخرج في كلية الآداب بجامعة بغداد، ومع أن تخصصه في قسم العلوم الإسلامية واللغة العربية إلّا أنه حصل على فرصة العمل والتعيين في وزارة الكهرباء وبقي فيها إلى حين تقاعده قبل سبع سنوات. بدأ اهتمامه بالتراث البغدادي منذ المرحلة الإعدادية تأثراً بأحد أعمامه، مثلما تأثر بكتب عبد الكريم العلاف عن الغناء والقيان في بغداد، وبندوات سالم الآلوسي، ومصطفى جواد، ولمحات علي الوردي، وكتاب عباس العزاوي العراق بين احتلالين. وهو يعكف حالياً على تأليف كتاب تراثي، ويواصل أيضاً توثيق عدد من الأحياء والأماكن البغدادية القديمة بمعونة فريق عمل فني. والحسناوي هو واحد من حُرَّاس الذاكرة البغدادية في أيامنا هذه، فهناك حُرَّاس آخرون لا تخطئهم العين أمثال صباح السعدي وفريقه الخاص للتوثيق، وهو صاحب متحف أرض الرافدين الكائن في المركز الثقافي البغدادي، والباحث معتصم المفتي، والباحث ياسر العبيدي، كذلك لا يمكن اغفال الجهد التوثيقي المهم الذي أنجزه محمد خليل التميمي خلال العامين الماضيين إذ صور وأنتج وقدم مئات البرامج التلفزيونية والأفلام القصيرة والفيديوهات التوثيقية لأغلب معالم بغداد التراثية وعادات البغداديين في مناسباتهم وأفراحهم وأتراحهم، وأسواقهم ومقاهيهم وأكلاتهم وألعابهم الشعبية، فضلاً عن الكتب الحديثة التي وثقت أحياءً بعينها مثل كتاب علي عبد الأمير الزبيدي « شذرات من تراث الكاظمية في القرن العشرين «، وكتاب عبد الجبار التميمي عن محلتي العيواضية والصرافية.

من آخر نتاجات حُرَّاس الذاكرة البغدادية كتاب «محلات بغداد في مئة عام 1858-1958م» للباحثَيْن قصي إسماعيل الفرضي ونادية ياسين، وقد اعتمدا في تحديد مواقع تلك المحلات على خرائط بغداد القديمة التي وضعها كل من فليكس جونز ولويس ماسنيون ورشيد الخوجة ومحمد أمين زكي ومديرية المساحة، وأطلس بغداد الذي وضعه أحمد سوسة عام 1952، ويلاحظ الباحثان في بداية كتابهما الفخم المصور والمزود بالخرائط، أن «المحلات عموماً ليست لها حدود معلومة بل إنها من الأمور الاعتبارية، ففي كل عصر يصطلحون على أسماء ويجعلون مسمياتها محلات. وهناك محلات قديمة تغيرت أسماؤها أو اندمجت مع محلات أخرى بسبب التوسع في المدينة أو لصغر حجم المحلة، وهناك محلات انشطرت إلى قسمين أو أكثر عند فتح شوارع العاصمة الرئيسة بداية ووسط القرن العشرين». ويتضمن الكتاب عرضاً وتوصيفاً لما يقرب من 140 محلة بغدادية في جانبي الكرخ والرصافة وأكثر من 300 صورة تاريخية نادرة مع عشرات الخرائط لتلك المحلات، كما يتضمن طرائف بغدادية، منها إن الإنكليز علَّقوا في أوائل احتلالهم لبغداد لوحة باللغة الانكليزية تمنع الدخول إلى احدى المحلات المشبوهة، وتحتها ما يفترض أنها ترجمة إلى اللغة العربية تقول « ممنوع الخشوش من هنانا «!.

حُرَّاس الذاكرة البغدادية الشعبية كثيرون يصعب عدهم من إبراهيم الدروبي وأمين المميز وجلال الحنفي وعبد الرزاق الحسني وحسين علي محفوظ وعباس بغدادي ومرهون الصفار وعزيز جاسم الحجية وفخري الزبيدي وحسين حاتم الكرخي وعماد عبد السلام وموسى الشابندر وطارق حرب، إلى أخر جيل من هؤلاء العشاق الذين تجمعهم بين حين وآخر ندوات ومحاضرات مثل تلك التي قدمها الحسيناوي في منتدى بغداد الذي ينشط فيه كلاً من الباحثين التراثيين عبدالمنعم العيساوي وعادل العرداوي، أو مثل تلك الأنشطة والمحاضرات التي تقام كل يوم جمعة في المركز الثقافي البغدادي الذي يديره بشغفٍ وتفانٍ ومحبة عاشق بغداد طالب عيسى، ناهيك عن فعاليات ومهرجانات رابطة المجالس البغدادية. لا خوف على ذاكرة مدينة حية يحرسها أمثال هؤلاء العشاق المعاميد الذين هدَّهُم عشقُ بغداد الجميلة.

 
القراءات 64 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78706

حاليا يوجد 6 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions