مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

ماركو بولو العرب

قيم هذه المقالة
(0 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email
الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع

 

يحدثنا التاريخ عن شخصيات مغامرة وضعتها الأقدار مصادفة، أو أنها صنعت قدرها بنفسها لتؤدي أدواراً مثيرة في رحلات الاستكشاف والتعرف على شعوب الأرض ولغاتها وطبائعها وعاداتها، بل أن بعض هؤلاء تمكنوا بذكائهم ومهاراتهم أن يصبحوا كأنهم أحد أبناء تلك الشعوب، ليشاركوها أفراحها وأتراحها، وآدابها وفنونها، ويسهموا في سنوات سلمها وحروبها، وفي صنع تاريخها وأحداثها، لما حظوا فيه من مكانة مرموقة وثقة عالية عند ملوكها وسلاطينها وامرائها. وأشهر هؤلاء الرحالة الإيطالي ماركو بولو ابن امارة البندقية البحرية التي كانت اساطيلها تتحكم بعدد من الطرق التجارية وموانئ البحر الأبيض المتوسط في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي .

في كتابه «ماركو بولو مغامراته واستكشافاته» الذي ترجمه سنة 1959 المقدم حسن حسين الياس وراجعته سميرة عزام وقدم له جعفر الخياط يقص علينا المؤرخ رشارد جي. ولش حكاية هذا الصبي الإيطالي المغامر من بدايتها في البندقية حتى اتيحت له فرصة الابحار والسفر مع والده وعمه لتقودهم رحلتهم الطويلة عبر السفن وعلى ظهور الخيل والجمال والبغال إلى الصين أيام حكم الامبراطور قبلاي خان الذي كان قد استقبل والد ماركو بولو وعمه استقبالاً كريماً في رحلتهما الأولى، وحين عادا في رحلتهما الثانية بعد سنتين اصطحبا معهما ماركو الصغير في رحلة استغرقت ثلاثة أعوام ونصف صادفتهم فيها الأهوال والمصاعب قبل وصولهما إلى بلاط قبلاي خان في بكين، وقد رحب قبلاي وهو أخ هولاكو وحفيد جنكيز خان امبراطور المغول وجدهم الأكبر بعودتهم – كما يكتب الخياط في مقدمته - واكبر فيهم جرأتهم وتحملهم للمشاق، ولفت نظره ماركو الذي أصبح شاباً يافعاً فألحقه بخاصة أتباعه. فتعلم لغة التتر وبرهن على ذكائه وجدارته برعاية الخان حتى عينه في منصب رسمي وصار ينتدبه للكثير من المهام الخطيرة. ومنذ ذلك الحين عني بتدوين مذكراته التي لم يتوقف عنها حتى عاد إلى بلاده بعد أن مكث في الصين مدة تناهز السبع عشرة سنة.

بعد ما يقرب من سبعة قرون ونصف القرن على رحلة ماركو بولو إلى الصين، فإن مثل هذه المغامرة تبدو مستبعدة تماماً بفضل تطور وسائط النقل ووسائل الاتصالات الحديثة التي اختصرت المسافات بين البلدان وشعوبها، وأصبحت المسافات الطويلة التي كان يستغرق قطعها شهوراً وسنوات وتحدث فيها أنواع المخاطر والصعوبات تقطع بساعات من المتعة والراحة والرفاهية والاسترخاء، وصار كل شيء مكشوفاً للعالم أجمع، لذلك لا فرصة لظهور ماركو بولو جديد، إلا بثوب معاصر، ومهمة جديدة تتناسب وعصر التواصل والسرعة والحوار والانفتاح . وهذا ما فعله الشاب المصري أحمد السعيد الذي قاده حب القراءة والاطلاع وهو في الثامنة من عمره إلى كتاب أنيس منصور «حول العالم في 200 يوم» فبدت له القصص التي يحتويها الكتاب مثل الحكايات الخيالية، كما كانت تلك هي المرة الأولى التي يتعرف فيها على الصين أو يعلم بوجودها، مما ألهب خياله وحماسته لمعرفة المزيد عن هذه البلاد، وما أن بلغ سن الدخول إلى الكلية حتى بدأ يفكر في اختيار مستقبله ويدقق في أفكاره، فقد كان يحلم بدراسة الطب احتراماً لرغبة والده واسرته، لكنه ترك هذا الحلم وتحول لدراسة اللغة الألمانية، وتزامن ذلك مع بداية قبول قسم اللغة الصينية للطلبة الجدد، فقرر ترك اللغة الألمانية والتسجيل في هذا القسم مدفوعاً بروح المغامرة والتحدي، وربما بما بقي في خياله من كتاب أنيس منصور، ليقلب هذا القرار الصغير حياته رأساً على عقب، ويقوده في نهاية المطاف وبترتيب القدر إلى منطقة نينغشيا في الشمال الغربي للصين التي وصلها عام 2010 ليبدأ فيها مشروعه الذي أوصله إلى لقبه المعروف عند الصينيين «ماركو بولو العالم العربي في العصر الحديث».

ما الذي فعله أحمد السعيد ليحظى بهذا اللقب ؟ لم يركن لعمله التقليدي مترجماً بين اللغتين العربية والصينية في المنتديات الثقافية والاقتصادية والتجارية بين الصين والدول العربية، بل عمل أيضاً في مشروع ترجمة ونشر ألف عنوان من كلاسيكيات الأدب الصيني والعربي، مما جعله يدرك أهمية التبادل الثقافي بين العرب والصين ليبدأ كما يقول في كتابه «سنواتي في الصين» : بتأسيس مشروعه الذي اختار له اسم بيت الحكمة تيمناً بأول مركز ترجمة مهني ومحترف في التاريخ الذي أنار فضاءات بغداد عاصمة الثقافة قبل 1200 سنة « وجعل له فرعاً في القاهرة ليتواصل ويترجم وينشر مع شركائه الصينيين أكثر من 640 كتاباً في عشر سنوات.

ماركو بولو العرب الذي حضر افتتاح الدورة الأخيرة لمعرض العراق الدولي للكتاب اشترك بجناح كبير لإصدارات مشروعه العربي الصيني «بيت الحكمة للثقافة»، كان يخطط عند وصوله أول مرة، للبقاء في مدينة ينتشوان حاضرة منطقة نينغشيا الصينية لمدة ثلاثة أشهر، لكنه أحب المدينة وتزوج فيها، وأسس فيها مشروعه الثقافي، ومازال متمسكاً بالحياة في الصين، على خلاف ماركو بولو الذي عاد إلى موطنه البندقية في نهاية المطاف.

لقد كرس نفسه لمهمة كبيرة وممتدة من أجل خدمة العلاقات الثقافية بين المثقفين والأدباء والمترجمين وعموم القراء العرب والصينيين، وتمتين الصداقة بين العالم العربي والصين.
القراءات 61 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78629

حاليا يوجد 9 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions