مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

دروس في الصحافة والحياة

قيم هذه المقالة
(0 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email
الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع
 

يكشف الصحفي والكاتب عبد الله السنّاوي في كتابه « أحاديث برقاش» عن مضامين حواراته الشائقة التي اقترب فيها من الأستاذ محمد حسنين هيكل بلا حواجز. والحق يقال فإن هذه الحوارات سلطت الضوء على اسطورة الصحافة من كافة الجوانب الشخصية والسياسية والصحفية، وتجاربه وفتوحاته الصحفية والحوادث التي مر بها في حياته المهنية الطويلة، وبالأخص تلك التي أثرت في مسيرته المهنية والصحفية التي بدأت منذ العام 1942 حين أقدم وكان في مقتبل العمر على تغطية حرب صحراء العلمين، وهي حوارات مليئة بالأسرار والخبايا التي يهتم بها عموم القراء، لكن الذي لفت انتباهي أكثر هي الدروس المهمة في الصحافة بل وفي السياسة والحياة التي التقطتُها من بين صفحات هذا الكتاب الممتع الجميل، وهي دروس ولا شك مفيدة للأجيال الصحفية الجديدة التي اختلط عليها الحابل بالنابل، وتشابه عليها البقر، وتخلخلت لديها المقاييس والقواعد والأخلاقيات الرصينة لمهنة الصحافة.
ولعل الدرس المهم هو الإخلاص للمهنة والشغف بها، فقد ظل هيكل حتى لحظاته الأخيرة : « مخلصاً لمهنته، التي لم ير لنفسه مهنة سواها» وكان شغوفاً بها حتى وهو على فراش المرض، فالصحافة أولاً حتى لو كان له نفوذه السياسي، أو وهو يتريض، أو يقضي إجازة صيف. والدرس الآخر هو احترام الكبار من رواد الصحافة، فكان لا يذكر اسم محمد التابعي، إلا مسبوقاً بلقب « الأستاذ» مع أنه لم تكن هناك حواجز بينهما، كما كان وفياً لهم، وبالأخص مع التابعي وكامل الشناوي وقد تأثر بهما في سنوات تكوينه الأساسي: كان بوسع «التابعي» و «الشناوي» أن يطلبا ما شاءا في ذروة صعوده الستيني وأن يمشي ما يطلبان على الرقاب»، يكتب السنّاوي نقلاً عن هيكل: « لم يكن ممكناً أن أمانع في طلب حتى لو كان فيه خرق لأصول ونظم وقواعد». ومن تلك الدروس الانضباط في المواعيد» ارتبط أسلوب عمله بشخصيته، فلكل شيء مواقيت تضبطه وقواعد تحكمه وطقوس تحترم، ساعته البيولوجية منضبطة على مواعيدها، كل شيء في حياته منضبط بمواعيد لا تتغير». ولم يكن « يتعجل إصدار أي أحكام قبل استبيان الحقائق». ومنها أيضاً موقفه من حفلات تكريم الصحفيين ومنح الشهادات الفخرية وسواها، فإن هيكل كان يرفض بصورة قاطعة أي تكريم، وقد جسد ذلك عملياً طوال مسيرته المهنية، ومن ذلك اجابته على رسالة رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة التي أخبره فيها إن مجلس الجامعة صوت بالإجماع على منحه درجة الدكتوراه الفخرية فرفض ذلك بأدب وكياسة : « إنني شديد التأثر- راضٍ وممتن، لكن لدي مسألة أرى أهمية وضعها أمامكم، وتلك هي أنني التزمت أمام الرأي العام من بداية عملي على أن تكريم الصحفي من حق جمهور قرائه بحكم سلطتهم الأدبية والمعنوية عليه، ثم إنه مطالب طوال حياته المهنية بأن يلتزم بهذا الحق للرأي العام دون بديل أيًّا كان شكل تعبيره: وساماً أو لقباً أو تقديراً من أي جهة أو من أي نوع «، ويوضح في رسالته هذه أيضأ أنه راعى هذا المبدأ « إزاء دول شاءت أن تهديني أوسمتها بما في ذلك وطني مصر- كذلك راعيته إزاء هيئات تفضلت وأرادت أن تحتفي بي، بما في ذلك جامعات عربية وغير عربية رأت أن تهديني أرفع درجاتها العلمية» . ومن دروس الأستاذ هيكل، خصوصية الحياة الشخصية للصحفي، فلم يكن يفضل التطرق إلى حياته الأسرية في الصحف، وقد « أبعد أولاده علي وأحمد وحسن بقدر ما يستطيع عن شواغله وأزماته». وكانت قد سيطرت على وجدانه عبارة الفيلسوف نيتشه «عش في خطر»، لأن قدرات الإنسان حسب رأيه لا تتبدى إلا على حافة الخطر، لذلك كان يرى: «أن أخبار الجريمة وتغطيات الحروب مهمان في مجال التكوين الأصلح لصحفي يتطلع لمعرفة وثيقة بما يدور في المجتمع، أو العالم». وهناك الكثير من الدروس التي يمكن للصحفي أن يطلع عليها في مسيرة هيكل وحواراته وكتاباته وأحاديثه، ومنها أهمية التدوين لأن «الذاكرة خوّانة»، وأن قوة الكلمة تكمن في توقيتها. والمصداقية: «ولا قيمة لقصة إخبارية مهما بالغ صاحبها في فنياتها مالم تكن مستندة إلى معلومات صحيحة وأخبار تأكدت سلامتها».
كان هيكل عقلانياً وموضوعياً ودقيقاً ومنضبطاً ومدركاً لمكانة الصحافة ورفعتها، لكنه كان أيضاً انساناً له مشاعره وأحاسيسه وأحزانه: « أشعر بقلق لأن الأحزان أخذت منا في الفترة الأخيرة كثيرين ممن نحب، ومع كل نازلة حزن فإن مساحة من أرض هذا الوطن تتحول إلى خلاء موحش لا خضرة فيه ولا زهرة، وذلك شيء يثير الخوف ليس فقط بسبب أحزاننا على رحيل أحبائنا ولكن إشفاقاً على هذا الوطن في ذات الوقت».
وهذا غيض من فيض الدروس الهيكلية التي احتوتها « أحاديث برقاش» كما نقلها لنا بلا حواجز الأستاذ عبد الله السنّاوي، رئيس تحرير جريدة العربي المصرية، وصاحب كتاب «يوميات جمال عبد الناصر في حرب فلسطين»، والذي قال في آخر حوار تلفزيوني معه: إنّ قيمة هيكل تأكدت أكثر بعد رحيله.

القراءات 52 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78707

حاليا يوجد 10 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions