مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

كيف سقينا الفولاذ

قيم هذه المقالة
(0 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email
الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع

 

شيءٌ ما استفز ذاكرتي، وأعادني إلى ما يقرب من 45 عاماً إلى الوراء، إلى منتصف ونهايات السبعينيات، بعد اطلاعي على خبر تفكيك النصب التذكاري للروائي الأوكراني نيقولاي أوستروفسكي صاحب الرواية الشهيرة «كيف سقينا الفولاذ»، وكان هذا النصب قد أقيم تخليداً للكاتب في قرية شيبيتوفكا الأوكرانية بجوار متحف منزله حيث مكث فيها مع أسرته لمدة غير قصيرة أثناء مرضه الطويل الذي لازمه منذ إصابته في الحرب الأهلية الشرسة وهو في العشرين من عمره، وبقي مشلولاً مقعداً ثم أصيب بالعمى حتى نهاية عمره القصير الذي لم يتجاوز 32 عاماً .

في تلك السنوات كان الأدب القادم من الاتحاد السوفييتي هو الشغل الشاغل للشباب العراقي المثقف المتلهف للقراءة، يأتيهم في الغالب محمولاً على أجنحة دار التقدم الروسية مترجماً إلى اللغة العربية على أيدي أبرع المترجمين وفي مقدمتهم سامي الدروبي وأبو بكر يوسف وغائب طعمة فرمان، ومعروضاً بلا قيود وبأسعار مناسبة على رفوف المكتبات، ومنها على وجه التحديد مكتبة الصداقة في شارع الخيّام المتخصصة بالكتب والمطبوعات والبطاقات البريدية والطوابع والعملات والتذكارات الدعائية المطبوعة والمنتجة في موسكو، لقد كانت تلك السنوات هي ربيع الأدب الروسي للقراء العراقيين ولعموم القراء العرب، ولم تكن مكتباتهم الشخصية لتخلو من أعمال ذلك الأدب الكلاسيكي في العصر القيصري أمثال روايات وقصص ومسرحيات نيكولاي غوغول وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف، ثم أضافوا لها انحيازاً ايديولوجياً فكرياً، أو متعة أدبية خالصة، أعمال العصر اللاحق بعد ثورة أكتوبر وبروز اسم مكسيم غوركي وروايته «الأم» رغم انها كتبت قبل الثورة، مع أسماء أدباء روس أو من قوميات أخرى منصهرة في الاتحاد السوفييتي، أمثال جينكيز أيتماتوف وروايته «وداعاً ياغولساري»، وميخائيل شولوخوف الفائز بجائزة نوبل لعام 1965 عن روايته « الدون الهادئ «، وأخيراً الروائي المشلول والأعمى الذي سقى الفولاذ نيقولاي أوستروفسكي، وهو من تفكك أوكرانيا اليوم تمثاله دون أن تكترث لمقولته الشهيرة المنقوشة على قاعدته والتي وردت على لسان بافل كورتشاغين بطل الرواية: « تعلم أن تعيش حتى ولو أصبحت حياتك لا تطاق».

 وفي اعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، وبعد الإجراءات التي اتخذتها بعض المحافل الغربية تجاه الأدباء والفنانين والرياضيين الروس، أو تجاه الإجراءات المتبادلة بين روسيا وأوكرانيا اللتين منعتا بث أو تداول أعمال موسيقية أو فنية أو أدبية لفنانين وأدباء من البلدين، على الرغم من أن غالبية تلك الأعمال كانت تنتمي لحقبة كانا فيها يشكلان بلداً واحداً هو الاتحاد السوفييتي، تم التساؤل هل يجوز أن تُقحم الفنون والآداب في خضم الحروب، وهل من الصواب أن يدفع أديب أو فنان عاش ومات في حقبة متقدمة على الحروب اللاحقة ضريبة موقف فكري أو أيديولوجي أو سياسي، فتتم إزالة آثاره وحظر أعماله؟.. وفي المثال الأوكراني فإن أوستروفسكي محسوب على تاريخ الأدب الأوكراني أكثر من الروسي، ومع ذلك فإن روسيا احتفلت عام 2006 بمرور مائة عام على ميلاده، وأوكرانيا تفكك نصبه بعد ثمانية عشر عاماً على ذلك، وهو الذي كان اسمه مكتوباً على الدبابات الأولى التي اقتحمت برلين لتنتهي الحرب العالمية الثانية بسقوط برلين على أيدي جنود الاتحاد السوفييتي عام 1945، وكانت رواية «الفولاذ كيف سقيناه»، كما يقال، ترافق الطلبة في مدارسهم، والجنود في ثكناتهم .

لا أعلم تماماً ما الذي جعل هذه الرواية تتردد كثيراً على ألسنة جيل السبعينيات من الادباء وطلبة الجامعات وطليعة القراء، ليس في العراق وحده إنما في البلدان العربية وأغلب أرجاء العالم، ربما لأنهما تمثل فتحاً جديداً في أدب الواقعية الاشتراكية بعد رواية «الأم»، وربما بسبب حياة مؤلفها المأساوية الذي مات وهو في سن الشباب بعد عذاب طويل مع التهاب المفاصل والشلل والعمى، ومع ذلك بقي على سرير المرض صامداً صلباً يتغنى حتى النهاية بالحرية والنضال في سبيل القضية والاشتراكية والحب والانسانية، غير أن سحر الرواية باقٍ لم يغب عن الأجيال الجديدة، فقد طبعت مرات عديدة، وترجمت ترجمات مختلفة، وكانت ترجمة غائب طعمة فرمان من أوائل الترجمات وآخر ما صدر من طبعاتها ما أصدرته دار المدى قبل تسعة أعوام.

ربما يكون للأوكرانيين الذين ذاقوا مرارة الحرب ونكباتها ومآسيها أسبابهم، ولا أحد يمكنه أن يلومهم على ذلك، مثلما للروس أسبابهم، لكن هل يمكن للمرء أن يحلم بأن تكون الحروب يوماً ما بعيدة عن المساس والاضرار بمعالم الآداب والفنون التي هي جزء من التراث الإنساني ومن ذاكرة البشر، وهل من الضروري تحطيم تماثيل ونصب الأدباء والفنانين وتغييب أعمالهم بعد تغيير الأنظمة، وتقلب أمزجة الحُكام والشعوب؟

قد يذهب نصب نيقولاي أوستروفسكي أخيراً إلى مصهر الفولاذ، وفي ذلك حكمة ودرس بقدر ما فيه من مفارقة عجيبة، وسخرية من مساخر التاريخ.

القراءات 117 مرة
المزيد في هذه الفئة: « صدمة نوبل صاحب العُمر الماسيّ »

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78630

حاليا يوجد 15 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions