صدمة نوبل
المؤلف : د . طه جزاع
بانتهاء حفل توزيع جوائز نوبل أول أمس السبت على الفائزين بها لعام 2022 ومنهم الكاتبة الفرنسية آني أرنو الفائزة بجائزة الآداب، تكون الحكاية قد وصلت إلى نهاياتها بانتظار فصل جديد من رواية « صدمة نوبل» في العام المقبل. ففي كل عام تتكرر مثل هذه الصدمة عند الادباء والمثقفين العرب على وجه الخصوص الذين يقيسون استحقاق الجائزة وفق أهوائهم وقناعاتهم ورؤاهم وقراءاتهم وأمنياتهم، لكن رياح الأكاديمية السويدية تأتي عادة بما لا تشتهي السفن، وهناك شاعر وباحث عربي يراهن عليه المراهنون في كل عام للظفر بالجائزة، غير أنه لا يدخل حتى في خانة الترشيحات الأولية عند أصحاب الأكاديمية التي لا يعرف حتى الفائزون بجائزتها لماذا اختارتهم هم بالذات دون غيرهم من الأسماء المرشحة، لذلك فإن أكثرهم يشعرون بصدمة المفاجأة حين يسمعون بخبر فوزهم عبر وكالات الأنباء حالهم حال الآخرين، مثلما يسمعون البيان الموجز عن أسباب منحهم الجائزة .
والحكاية تقتصر تحديداً على جائزة نوبل للآداب دون الفروع العلمية الأخرى المشمولة بها، وذلك أمر طبيعي، فليس كل المثقفين وحتى الناس العاديين في العالم يهمهم الاطلاع أو إبداء وجهات النظر فيمن يفوز بجوائز علمية تخصصية مثل الطب والفيزياء والكيمياء والاقتصاد، لكن الفائز بجائزة الآداب، يكتسح اسمه العالم بأسره، ويتكرر ذكره كثيراً في نشرات الأخبار وفي تقارير الصحف والمجلات ووكالات الأنباء، حتى إن كان مغموراً أو ليس معروفاً على نطاق واسع، وحتى لو كانت أعماله الأدبية لم يسمع بها أحد من قبل، فالجائزة بسمعتها الكبيرة تخرجه إلى النور حيث تسلط عليه الأضواء لمدة طويلة، وتتسابق دور النشر لترجمة أعماله ليكتب على غلاف كل منها الفائز بجائزة نوبل للآداب إلى جانب اسمه، وقد مضت تلك الحقبة التي كانت تمنح فيها الجائزة لأسماء شهيرة من الفلاسفة والشعراء والروائيين العالميين الذين لا يختلف عليهم أحد، مثلما مضت إلى حد ما موجة التشكيك بالدوافع الأيديولوجية والسياسية التي تنتهجها الأكاديمية في قراراتها، وبالأخص في جائزة هذا العام التي توقع الكثيرون أو أنهم كانوا يتمنون لو انها مُنحت للروائي الهندي سليمان رشدي بعد تعرضه إلى طعنات قبل بضعة أشهر، فمن الواضح أن توجه أصحاب نوبل اتخذ مساراً جديداً يتجه باتجاه أدباء محدودي الشهرة عالمياً، بل ومجهولين تماماً عند القراء العرب ودور النشر العربية مثلما حدث في العام الماضي مع الروائي التنزاني عبد الرزاق قرنح وهو من أصول عربية يمنية الذي ما أن أعلن فوزه حتى تسابقت تلك الدور للحصول على حقوق ترجمة أعماله وطباعتها وتوزيعها لتصدر رواياته، ومنها «ما بعد الموت» و» ذاكرة الرحيل» موشحة في أعلاها بعبارة «جائزة نوبل 2021».
الأمر تكرر هذا العام إلى حد ما مع الروائية الفرنسية آني إرنو، فهي ليست مجهولة تماماً للقارئ العربي كما هو شأن قرنح، إذ حظيت أعمالها بترجمة عدد من دور النشر ومنها دار الجمل التي ترجمت لها عدة روايات قبل فوزها بنوبل، وقد تنبه بعض القراء إلى هذه الترجمات بعد فوزها، فعادوا إليها لمعرفة السر في منحها الجائزة، فمع أن السيدة إرنو كانت من ضمن المرشحين الذين تم تداول أسمائهم لنيل الجائزة إلا أن فوزها كان صدمة أخرى من صدمات نوبل التي منحتها الجائزة لشجاعتها في اكتشاف الجذور والقيود الجماعية للذاكرة الشخصية!. لا أدعي معرفة بأعمال إرنو قبل فوزها، بل أنني لم أسمع بها من قبل، لكني مثل الكثيرين سارعت لقراءة أعمالها المترجمة إلى العربية، وتداولتها مع عدد من الأصدقاء الذين أثق بتقييماتهم للتعرف على شجاعة الروائية الفرنسية بحسب ما رآه أعضاء أعلى لجنة أدبية في العالم، ومن حسن الحظ أن رواياتها ليست طويلة، وهي أشبه بمذكرات شخصية يومية تتراوح بين الغيرة النسائية كما في رواية «الاحتلال»، والاجهاض كما في» الحدث»، أو عن حياتها مع والديها وانطباعاتها عن والدها كما في «المكان»، أو عن والدتها بعد إصابتها بالزهايمر في «لم أخرج من ليلي»، وهذه عناوين ومضامين كلها مترجمة إلى اللغة العربية وأحياناً باللهجة المصرية، ومن لا يتمكن من القراءة بلغة الروائية نفسها فليس بإمكانه ولا من حقه أن يعطي رأياً موضوعياً فيها، لكن بافتراض أن تلك الترجمات يمكنها أن تعطي انطباعاً عاماً عما تقصده أكاديمية نوبل بشجاعة آني إرنو، فإن تلك «الشجاعة» لا تتعدى الجرأة المُقززة أحياناً، والصراحة المُنفرة في وصف انشغالات امرأة وميولها ومشاعرها الإنسانية والعاطفية والجنسية بكلمات جريئة وعبارات فاضحة تخرج أحياناً عن اللغة المألوفة.
رسالة نوبل كأنها تقول: لا تنشغلوا كثيراً بقضايا مثل الحرب والسلام والبطولة والتضحية والمصير البشري والحوار الثقافي والانفتاح الحضاري، وغير ذلك من انشغالات كبيرة، فهناك ما هو أهم من كل هذه القضايا: الإنسان بوصفه شخصاً مسحوقاً، وفرداً ضعيفاً يواجه عالماً عدائياً وقاسياً، ويعاني نفسياً وجسدياً وعاطفياً، مثلما عانت إرنو وكتبت معاناتها وعذاباتها وخيباتها بكل صراحة وجرأة وشجاعة. ومن أجل مثل هؤلاء ربما فإنها أعلنت في حفل توزيع جوائز نوبل عن رغبتها في تخصيص جائزتها إلى: «جميع من يتعذبون ولكل الذين يناضلون والذين لا يتم الاعتراف بهم».
وبانتظار صدمة نوبل للعام المقبل.
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.