صاحب العُمر الماسيّ
المؤلف : د . طه جزاع
كان اللقاء الأول معه مشوباً بشيء من الحذر والترقب، ذلك أن المرء حين يلتقي لأول مرة ووجهاً لوجه مع كاتب أو أديب يعرفه حق المعرفة من خلال كتاباته وانجازاته، يصاب أحياناً بخيبة أمل تنتج عن اللقاء المباشر, وهناك الكثير ممن تلتقي بهم وقد كونتَ عنهم صورة متخيلة مسبقة في ذهنكَ، فتصدمك شخصياتهم الحقيقية كما تراها وتتحدث معها، وعندها تتمنى لو أنك لم تلتقِ بهم إلى الأبد. غير أن ذلك اللقاء الأول مع عبد الحسين شعبان كان مختلفاً تماماً، فلم تمض دقائق حتى تبدد الحذر لأجد نفسي كأنني مع صديق قريب للنفس أعرفه منذ سنوات طويلة، وكان الفضل في التعرف الشخصي على أبي ياسر للزميل زيد الحلي الذي أيقنت وقتها أنه أهداني واحدة من أروع الصداقات، بل جعلني أتمنى لو أن ذلك اللقاء قد حدث قبل أوانه، وفي زمان غير زمانه، فهذا الرجل له قدرة عجيبة على أن يأسرك ببساطته وتواضعه، وبدفء أحاديثه وذاكرته القوية التي تشبه ذاكرة كومبيوتر في خزن التواريخ والأسماء والحوادث، وقد لا أكون مغالياً لو وصفته بأنه الذاكرة الحية لليسار العربي، وبالأخص اليسار العراقي بشخوصه المعروفة أو تلك التي طواها النسيان، يحكي لك نجاحاتها واخفاقاتها وخساراتها وخيباتها ونكباتها وقصصها الدرامية التي تشبه السرديات الروائية حين يرويها على لسانه أو يسجلها في بعض كتبه التي بلغت الثمانين كتاباً.
شعبان الذي تحتفي به يوم السبت القادم مؤسسة آفاق العدالة للدعم القانوني بالتعاون مع اتحاد الحقوقيين العراقيين بلغ الآن المرحلة الماسية من مراحل عمره المديد، كما جاء في بطاقة المؤسسة عن مناسبة هذه الاحتفالية الكبرى، والمرحلة الماسية كناية مهذبة ولطيفة عن وصول المرء إلى مرحلة متقدمة من العمر، وهي تبدأ عادة من الستين أو من السبعين صعوداً إلى الثمانين عاماً أو إلى نهاية العمر أيهما أقرب، ويقال أن هذه المرحلة هي من أكثر مراحل حياة الانسان عطاءً ونشاطاً، على العكس من المتعارف عليه، وقد يقال ذلك أحياناً للمجاملة والتشجيع والتحفيز، ولكنه في حالة عبد الحسين شعبان حقيقة لا غبار عليها، فهو وإن دخل عامه الثامن بعد السبعين لكنه مازال متوقداً مثل شعلة تنوير، دائم الحركة والنشاط الجسدي والعطاء الفكري والبحثي والأكاديمي. يَجّوب المدن، يهاتفك من بيروت، وبعدها بأيام من لندن ليخبرك انه مغادر إلى فينيسيا أو أوسلو أو مالمو، أو إلى عَمان أو الخرطوم أو قادماً إلى بغداد ومنها إلى العمارة أو البصرة أو السليمانية أو أربيل، ولكل زيارة من زياراته هدف ومعنى وعمل، مثل هذه الاحتفالية التي تقام في بغداد: «احتفاءً وتكريماً لمنجزات واقع السيرة الفكرية والمعرفية والثقافية – الإبداعية لأحد أبرز رواد الدفاع عن حقوق الانسان في العراق والوطن العربي والعالم» مثلما جاء في بطاقة الدعوة.
قد لا يكون من المصادفات أن يأتي هذا الاحتفاء بعد أيام قلائل من الاحتفال باليوم الدولي للتسامح الذي أقرته الأمم المتحدة قبل أكثر من ربع قرن، فشعبان هو الفائز بجائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، وهو صاحب كتاب «في الحاجة إلى التسامح» الذي يصحح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام في الذهن الغربي، ويوضح بأن الأعمال الارهابية لا تمثل حقيقة الإسلام وجوهره الانساني، إنما تمثل المتطرفين لوحدهم، وهم على أي حال يمثلون ظواهر اجرامية. ويشير أيضاً الى الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الذي قسم العالَم إلى معسكرين حين أطلق على الغرب «دول العالم الحر» و «معسكر الخير» والثاني «البلدان المارقة» التي أطلق عليها «معسكر الشر» أو دول محور الشر الذي ينبغي القضاء عليه، راجعاً في ذلك إلى أصول فكرة التسامح عند فولتير الذي يسميه أبو التسامح بعد جون لوك، وذلك في كتابه» التعصّب أو النبيّ محمد» الذي صدر في العام 1741 منوهاً إلى أن فولتير عاد وصحح موقفه ليكتب رسالته عن التسامح التي دعا فيها إلى الأخلاقية القائمة على التسامح الديني بين الشعوب والأمم المتعايشة على أرض الغرب، موضحاً أن غاندي رغم إيمانه بأن نهج التسامح ليس هو النهج الأصوب والأمثل إلاّ أنه كما قال لم يجد أفضل منه، وبذلك فإن خياره هو اللاّعنف والتسامح والمقاومة السلمية المدنية، لكن تلك الأجواء المتسامحة خلقت معها ردود فعل غير متسامحة راح ضحيتها على أيدي بعض المتطّرفين والمتعصبين.
الرجل الماسيّ يرفع راية التسامح والتفاهم واللاعنف ونبذ التطرف والتعصب أينما حلَّ وأرتحل، ويحاور العقل بدين العقل وفقه الواقع، من مدينة إلى مدينة ومن صالون فكري إلى ملتقى ثقافي، وبذلك يثبت لأقرانه أن العمر الماسي للإنسان يبدأ بعد السبعين لا قبلها، وأنه في هذا العمر يجوب مدن العالم لإيصال رسالته التنويرية، بملابس بسيطة وحذاء طبي خفيف. وقد يحضر طيف غاندي في خياله .
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.