مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

الأعسم وقلق الغزّالي

قيم هذه المقالة
(0 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email
الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع

 

مع بدء الأيام الأولى لشهر آب 1973 انتهى أستاذ الفلسفة الإسلامية الدكتور عبد الأمير الأعسم، وهو في بغداد، من كتابه الفخم « الفيلسوف الغزّالي .. إعادة تقويمٍ لمنحنى تطوّره الرّوحي» الذي بدأه بتمهيد عام تلاه عرض لسيرته من الناحية التاريخية، ومجيئه إلى بغداد، وصولاً إلى رحلاته ووفاته. وفيما بين ذلك نتعرف على موقفه الجدلي من معاصريه، وقلقه ومرضه وشكّه، وكتابه الأشهر «إحياء علوم الدين» ونقده للمتصوفة مع تبيان الإطار الداخلي لبنائه الصوفي وجذور التصوف لديه، وموقفه من الصلة بين الشريعة والتصوف .كان الأعسم رحمه الله مطلعاً على مؤلفات لا تحصى عن الغزّالي بمختلف اللغات، حتى أن قول شيء جديد فيه يبدو أمراً محفوفاً بالمخاطر، غير أن ولعه بقراءة الغزّالي وكتابته لمقالات وأبحاث كانت كلها محاولات فحص لشخصيته في شقيها الذاتي والموضوعي شجعه على درس منحنى تطوره الروحي: « وبعد سنوات من هذه المواصلة رجعتُ سنة 1971 من كمبردج إلى بغداد لأدَّرس الفلسفة، فكان ذلك عوداً على فحص الغزّالي وتقديمه بشكل شيّق ومبتكر». كما يُدرك الأعسم أهمية وجرأة تفكيكه المعرفي للغزّالي، لذلك نجده يعترف بأنه كان صريحاً معه صراحته مع نفسه لو قدر له أن يُبعث فيكتب عن أزمته الروحية . قد يتساءل القارئ الكريم عن هذا الجديد الذي جاء به الأعسم في قراءته للغزّالي؟ والجواب أتركه له : « نلاحظ أن البحث في الغزّالي بحاجة إلى منهجية جديدة تنأى بالباحثين عن التقليد أو التردد أو التطرّف له، أو عليه»، ويقصد بذلك جملة من الباحثين الذين اشتهرت مؤلفاتهم عن الغزّالي بين القراء العرب على وجه الخصوص، من زكي مبارك في كتابه « الأخلاق عند الغزّالي 1925» الى سليمان دنيا في كتابه «الحقيقة في نظر الغزّالي 1947» وما بينهما وما بعدهما. ويصنف الأعسم أعمالهم إلى أصناف ثلاثة: صنف يرى أن الغزّالي ممثل حقيقي للفلسفة، وصنف آخر لا يرى الغزّالي ممثلاً إلّا للتيار الديني المضاد للفلسفة، وصنف أخير، أغرب من الصنفين، أولئك الذين ينزّهون الغزّالي عن الفلسفة ويرفعونه إلى مصاف الأولياء. لذلك فإن الأعسم يقر انه في منتهى الصعوبة أن يخلو كتابه من مؤثرات القدماء والمحدثين، والمعاصرين منهم بوجه خاص، لكنه يرى أن الغزّالي: « قد تصوف نتيجة جذور عميقة تعود إلى نشأته الأولى وتربيته وتلمذته على أستاذ صوفي. ثم أبعدته رغباته في الدنيا، وإذ سقط مريضاً تنبه إلى نداء دفين دعاه إلى قطع العلائق، فتصوف. وكما لاحظنا أن الحّلاج كان يشعر بلذة تعذيب نفسه، وأن الشبلي كان يتلذذ بجنونه، وأن البسطامي كان يتلذذ بهذيانه، نلاحظ أيضاً أن الغزّالي كان يتلذذ بشقاء غريب، رغم أنه كان متفائلاً في منهجه، ومرد هذا الشقاء مواقفه الكثيرة، الفلسفية والكلامية والفقهية والسياسية». ويشير الأعسم إلى ما واجهه الغزّالي من هموم وأعباء وإحباط كفيلسوف ومتكلم وفقيه وسياسي. وفي حكمه الأخير على شخصيته ينتهي إلى أنها : « اعتبرت كأبرز شخصية روحية في الإسلام، ومن أبقاها أثراً في تطوير الفكر الديني. ولقد كان في منحناه العام انسانياً وطموحاً وعاقلاً، مع كلّ ما تجسد من شكوك في انقلابياته المتتالية. إننا نراه بحق، من أبرز المفكرين في الإسلام، مع ما طرأ من تحوّلات في مواقفه العامة، وتلك حالة لم نر نقيضاً له فيها غير المفكر ابن الرّيوندِي، الذي لم يستطع أن ينتهي لغير الأيمان بالعقل، على عكس الغزّالي الذي فحص كل فكرة بحثاً عن اليقين، وانتهى إليه عندما تصوف، عن طريق الإيمان بالقلب، فأبقى العقل في الأرض، وصعّد ايمانه إلى السماء!».
في الثاني عشر من حزيران 2019 غادر الأعسم دنيانا عن 79 عاماً، بعد شبه اعتكاف في سنواته الأخيرة بمسكنه في بغداد. ولا أحد يمكنه تأكيد أو نفي إن كان قلق الغزّالي قد رافقه حتى أيامه الأخيرة، بعد أن سقط مريضاً مثله .
القراءات 85 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78630

حاليا يوجد 10 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions