الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع
التنمر القاتل
« الحزن يكسر القلب، ويسبب جلطة القلب، ويؤدي إلى الموت المفاجئ، الشيخ محمد عبد العليم بدوي أصيب بحالة حزن كبيرة وانكسر قلبه»، بهذه الكلمات كشف أحد أطباء القلب المصريين السبب الذي أدى إلى وفاة قارئ القرآن في مسجد قرية مجريا بمحافظة المنوفية، كان قد تعرض إلى واقعة تنمر الجمعة قبل الفائتة السابع من الشهر الجاري. والحكاية باختصار شديد بدأت كما نشرت بعض الصحف المصرية، حين تغيب خطيب المسجد، فأشار بعض المصلين إلى القارئ الشاب الشيخ محمد بدوي 42 عاماً المعروف بحلاوة الصوت والبراعة في التلاوة للصعود إلى المنبر على غير رغبة منه، لكنه تعرض أثناء نهوضه لأداء الخطبة إلى تنمر عدد من الأشخاص الذين شتموه وأسمعوه ألفاظاً قاسية وأخرجوه من المسجد، وحين عودته إلى منزله تعرض إلى أزمة نفسية قاسية ولم تمر ساعات قليلة حتى توفي بأزمة قلبية، على الرغم من محاولة عدد من الذين تنمروا عليه الاعتذار له عما حدث.
وتنبهنا هذه الحادثة وأمثالها من جديد إلى خطورة ظاهرة التنمر المجتمعي التي تتخذ أشكالاً متعددة سواء في العمل أو الشارع أو المدرسة أو الجامعة، أو حتى في ما بات يعرف بالتنمر الإلكتروني، وهو التنمر على الآخرين في مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى صفحات الفيسبوك على وجه التحديد، وهذا مما نلاحظه باستمرار في تلك المواقع من دون مراعاة للآثار النفسية التي يمكن أن يسببها للآخرين المعرضين للتنمر الذين قد يكتمون أحزانهم ويتألمون بصمت، ويموتون بصمت تحت مسمى الجلطات القلبية في مجتمع فقد الرأفة والعطف واللطف في التعامل وأسلوب الحديث والخطاب. واذكر انني قبل سنوات راجعت وقدمت لكتاب أعده الصديق النفساني مازن كامل عن الأمراض السيكوسوماتية وهي الأمراض والاضطرابات التي تصيب الإنسان بسبب ما يتعرض له من ضغوط نفسية واجتماعية، ولفت انتباهي قول لأحد علماء النفس استهل به كتابه جاء فيه «إن الدموع التي لا تجد لها منفذاً من العيون تجعل الأحشاء تبكي»، وكم من دموع عصية لأناس حساسين تعرضوا إلى أحد أشكال التنمر الجسدي أو اللفظي أو النفسي، حتى من الأهل والأصدقاء والزملاء والأقارب أحياناً، لكنهم واجهوا أحزانهم وآلامهم بالصمت والكتمان وحبس الدموع في محاجر العيون، غير أن قلوبهم قد كُسرت، وكانت أحشائهم تبكي بحسب القول الذي استخدمه في أحد مؤلفاته الطبيب والجراح التجريبي الكندي هانز سيلي الذي يعد رائداً في دراسات الضغوط النفسية وانعكاساتها على وظائف أعضاء البدن.
إن السلوك التنمري موجود في المجتمعات البشرية منذ القدم، كما يؤكد أستاذ علم النفس الدكتور مسعد أبو الديار مؤلف كتاب «سيكولوجية التنمر بين النظرية والعلاج» إلّا أن البحث في التنمر حديث نسبياً يعود إلى سبعينيات القرن الماضي. وقد ظهرت في السنوات الأخيرة العديد من البحوث النفسية وصدرت العشرات من الكتب حول التنمر، لعل أهمها ما يتعلق بالتنمر الإلكتروني، وهو واحد من أوسع الظواهر التنمرية وأحدثها في المجتمعات المعاصرة «ويحدث عندما يستخدم بعض الأفراد الهواتف المحمولة، أو الرسائل النصية، أو البريد الإلكتروني، أو غرف الدردشة، أو مواقع التواصل الاجتماعي لغرض إيقاع الأذى بأقرانهم»، هذا فضلاً عن الإبتزاز الإلكتروني الذي نسمع عن حوادثه كثيراً في مجتمعنا، وفي هذا المجال لابد من التأكيد على الأبوين وأولياء الأمور في مراقبة الأبناء وتوجيههم بما يجنبهم من مخاطر التنمر والابتزاز، كما أن من واجب إدارات المدارس – ونحن في بدايات العام الدراسي الجديد - مراقبة حالات التنمر التي قد يتعرض لها التلاميذ والطلبة من زملائهم، واستخدام الوسائل التربوية الصحيحة لحمايتهم وتوفير الأجواء النفسية والتربوية السليمة في محيطهم الدراسي .
يقول أحد أقارب الشيخ محمد بدوي ضحية التنمر في حديث لأحدى الصحف : كان حزيناً ومنهاراً، وظهر عليه الاعياء الشديد، وأمَّنا في صلاة العصر، لكنه سقط في الركعة الأخيرة، وقمنا بنقله إلى المستشفى، وتوفي فيها بسبب توقف عضلة القلب حزناً وكمداً.
ارأفوا ببعضكم البعض، فإن من القلوب ما هو أرق من جنح فراشة، يكفيها هزة حزن لكي تبكي، ثم تصمت إلى الأبد .
تم نشرها في -
الدكتور طه جزاع
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.