الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع
مدني والأسئلة المُخجِلة
بعد خمسة عشر عاماً على رحيله، وبما يشبه المفاجأة الثقافية السَّارة، تعيد دار الشؤون الثقافية الحياة إلى كتب مدني صالح وبحوثه ومقالاته وأفكاره ومواقفه الفكرية والفلسفية والأدبية والتي لم يكن يعتني بها في حياته، ولم يكن مهتماً بإعدادها أو تنظيمها أو إصدارها، وما كانت لتخرج إلى النور وتبعث من جديد، لولا أن تصدى لذلك اثنان من طلبته الأوفياء اللذين عملا بصمت وهدوء وحرص على انجاز هذه الهدية الجميلة للمكتبة العراقية المعاصرة.لقد جرت العادة على أن تكون اصدارات «الأعمال الكاملة « مخصصة لشعراء أو روائيين، وفي هذا السياق شهدنا في المدة الأخيرة صدور العديد من هذه الأعمال عن دار الشؤون الثقافية، وبالأخص بعد تولي الشاعر الدكتور عارف الساعدي إدارتها وتحمله مسؤولية إعادة الثقة بإصداراتها التي تعثرت لأسباب مختلفة، وبذلك انتظمت في الصدور مجلات راسخة مثل الأقلام والمورد والتراث الشعبي والثقافة الأجنبية والموسوعة الصغيرة، وسلاسل من المجلات والكتب في شتى ميادين المعرفة من لغة ونقد ثقافي وحوارات فكرية وعلوم الاجتماع والآثار والفلسفة والطب والقضاء والإدارة، مع إصدارات جديدة من الكتب ضمن سلسلة « طبعة بغداد» ومجلة «لمحات» التي تعنى بالعلوم الاجتماعية، ومجلة الثقافة التركمانية، وغير ذلك من إصدارات متتابعة لا يتسع المجال لذكرها. أما في» الأعمال الكاملة « فمما سجلته ذاكرة الأيام أن يَطلعَ الشاعر حسب الشيخ جعفر على أعماله الكاملة وتكون بين يديه قبل بضعة أشهر من وفاته، وبعد أن بذل الساعدي جهوداً في التواصل معه ومع ولده من أجل إنجازها في الوقت بدل الضائع، ومن ذلك أيضاً الأعمال الكاملة للشاعر فوزي كريم، وديوان الجواهري بستة أجزاء، وديوان السيد محمد سعيد الحبوبي، وديوان الشاعرة لميعة عباس عمارة .
لذلك كله فإن صدور « الأعمال الكاملة « لمدني صالح لا يمثل احتفاءً أو إحياءً لذكراه فحسب – وهو المكتفي بذاته عن الآخرين في حياته -، إنما يشير إلى اتجاه صحيح نحو إصدار اعمال كاملة أخرى لمفكرين وأكاديميين وباحثين عراقيين كبار في مختلف صنوف الفكر والثقافة والعلوم الإنسانية، وما كان لأعمال مدني الكاملة أن تُجمع وتُعد وتُقدم لولا وفاء وجهود طالبيه في الفلسفة الدكتور فيصل غازي والدكتور محمد فاضل، ومن ساعدهما من طلبته ومحبيه في جمع شتات ما كتبه وتناثر بين الصحف والمجلات، وهو ما لم يهتم في حياته بجمعه، مكتفياً بعدد قليل من الكتب في الفلسفة والنقد الأدبي مثل كتبه عن ابن طفيل والفارابي والغزالي، ومقاماته، وكتابيه عن السياب والبياتي، مع أنه أصدر أول كتاب في شبابه وقد تخرج تواً في قسم الفلسفة بكلية الآداب والعلوم بجامعة بغداد وهو ابن 22 عاماً. ومنذ كلمته التي قدم بها كتابه هذا تتبين مبكراً سمات أسلوبه الأدبي الرفيع الذي سيتفرد لاحقاً، وهذا مما أثار إعجاب رئيس قسم الفلسفة وقتذاك الدكتور البير نصري نادر خريج السوربون الذي كتب تصديراً لكتاب تلميذه الشاب قال فيه : « واني أرى لمن الجرأة حقاً أن يتطرق لهذا الموضوع – يقصد مسألة الوجود التي يصفها بأنها من أعوص المشاكل العلمية والفلسفية – الشاب النابه الأستاذ مدني صالح، وهو تلميذي وعرفته منذ أربع سنوات مفكراً متأملاً المواضيع الفلسفية، نعم انها جرأة تستحق الإعجاب والتقدير». أما مدني صالح الذي نال مثل هذه الشهادة التي يندر أن يحصل عليها طالب من استاذه - فكيف أن كان الاستاذ بحجم المفكر والباحث اللبناني الكبير البير نادر – فإنه منذ كتابه الأول الذي أنجزه في العام 1954 ونشر في العام التالي بمساعدة وزارة المعارف العراقية، تصدى لأولئك الذين يتساءلون بما أسماه أسئلة مُخجِلة: ما الفائدة من الفلسفة؟ ما نفعها؟ أنَشقُ بنظرياتها عباب البحر، أم نُطير بمذاهبها الحديد؟. ما نفعها، ما لنا بالفلسفة، والأقوام فجرت الذرة وأنزلت الغيث من السماء وتنوي رحلة إلى المريخ ؟. ويرد مدني على هؤلاء بالقول: انها -أي الفلسفة- تنور العقل فلا يخطئ، وتقوم النفس فلا تنحرف ولا تلتوي، وتهذب المجتمع فلا يطغى بعضه على بعض.
أما كيف تفعل الفلسفة ذلك كله، فالجواب نجده في سطور مدني صالح، وما بين السطور من أشياء وأشياء، تلك التي نجدها في اعماله الكاملة التي أنجزت بفضل طلبته الأوفياء.
تم نشرها في -
الدكتور طه جزاع
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.