مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

الآلوسي .. دهشة السؤال وشكوك المعرفة

قيم هذه المقالة
(0 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email

 

يخيل لي ، وقد زامنت الراحل الكبير المفكر حسام محي الدين الآلوسي سنوات طويلة ، تلميذاً ، وقارئاً ، ثم زميلاً ، وصديقاً ، ان الرجل رحل عن دنيانا وفي نفسه أشياء وأشياء ، وفي ذهنه أسئلة وجودية وكونية وطبيعية وميتافيزيقية وإنسانية مدهشة ، بقيت من دون جواب فلسفي قاطع ، تحيطها الشكوك مهما تعمق فيها النظر ، بل انك كلما تعمقت فيها النظر ستجد نفسك قد سلكت طريق التيه والحيرة والضلال .
وهذه هي محنة الشك المعرفي عند الآلوسي التي لازمته طيلة حياته ، فكراً وفلسفة وإيماناً ووجوداً وإنساناً وكاتباً وباحثاً ومعلماً ، فقد تقلب الرجل بين مذاهب فلسفية شتى،قارئاً ودارساً وأستاذاً ، وأنقلب على نفسه محاولاً سحبها الى قوة الايمان الفطري بحثاً عن الهدوء النفسي والسلام الداخلي ، غير انها تنازعه في التمسك بجذوة العقل الذي لا يهدأ ولا يطمئن ولا يؤمن بغير الشك سبيلاً الى المعرفة اليقينية الخالية من شوائب الحس وأوهام المحسوسات ، وان امتلكت في ظواهرها مرتكزات اليقين ، وزاغت عن خداع اللمس والتذوق والسمع والشم والبصر ، وركنت الى الرياضة التي لا يخطئ فيها جذر ، ولا رقم ، ولا جمع ، ولا نقص ، ولا قسمة ، ولا حساب.
وتقلب وأنقلب من المعرفة الحسية ، إلى المعرفة العقلية اليقينية ، تقلب الحائر المندهش على طريقة الفلاسفة والمتصوفة والدراويش والعارفين ، بحثاً عن عرفان حدسي باطني ، وإشراق معرفي ، ينير قلبه الحائر ، ويطمئن روحه اللائبة ، غائراً في بطون الكتب ، ومجادلات الفلاسفة ، وحوار المتكلمين ومداهرات الدهريين ، ويقينيات اللاهوتيين وأدلة الفيضيين، قارئاً نهماً ، وباحثاً عميقاً ، وفاحصاً متمكنا لأدلة الوجود وقدم العالم الفلسفية ، وتهافتها واعتراض المعترضين عليها ، متنقلاً بين فلاسفة المشرق الاسلامي وفلاسفة المغرب ، محاوراً الكندي والفارابي وأبن سينا والغزالي والرازي والسهروردي، ومضارباً بهم ابن رشد وابن باجة وابن طفيل ، حتى اذا ما انتهى من حواره وجدله واستنتاجاته ، انتقل من الفقه والكلام والمنطق والفلسفة والسفسطة والطبيعة وما بعد الطبيعة ، الى الانسان ، هذا الكائن المجهول ، محاولاً سبر أغواره ، وكشف مكنوناته واسراره ، والتعرف على العلاقة الغريبة بين سموه ونقصه ، وملائكيته وشيطنته ، وزهده وحاجاته ، وروحه وجسمه ، مستغرباً مندهشاً من هذا الكائن الذي نصفه الأعلى سامٍ مفكر صانع مبدع ، ونصفه الأسفل منغمس في الحاجات البايولوجية، والملذات الدنيوية ، فلا هو ملاك مفكر مستغن عن الحاجات المادية الواطئة ، ولا هو كائن بايولوجي مكتف بإشباع حاجاته الاساسية من دون حاجة الى العقل والفكر والسؤال والجواب والشك واليقين .
وتقلب وانقلب بين الماركسية والوجودية المؤمنة والوجودية الملحدة ، ونظرية التطور والارتقاء بتجلياتها الاجتماعية ، مشبهاً حوارات الفلاسفة والمتكلمين الاسلاميين ، بحوار أنجلز ضد دوهرنغ ، وبنقد العقل الخالص عند كانت ، محققاً رغبته القديمة ،التي لم يسعفه الوقت لتحقيقها حين كان مشغولاً بتقديم اطروحته للدكتوراه في انكلترا ، مقارناً المسائل المهمة في الفكر الكلامي والفلسفي مع اصولها ومشابهاتها في الفلسفة الاغريقية الطبيعية قبل سقراط وعند افلاطون وأرسطو ومع الفلسفة المدرسية الغربية المسيحية ، ونقد ذلك الحوار من منظور حديث ومعاصر، معترفاً بضخامة هذه المهمة الصعبة ( حتى انتهت دراستي وعدت الى الوطن ، ومضت سنتان بعد العودة أمضيتهما في التدريس لمواضيع مختلفة منها الفلسفة الاسلامية ، تهيأ لي فيها استكمال بعض ما لم أستطع ادراكه قبل ذلك ، من الاطلاع على نواحي فكرنا الاسلامي الحديث ، وعلى الفكر اليوناني والفكر الوسيط ، بصورة أنضج ، وخيل لي انني لو أردت أن أستمر في القراءات لما أمكنني أن أنجز شيئاً ولو انصرم العمر كله)!
وهاهو عمرك كله وقد انصرم يا سيدي ، ووجب علينا ان نردد بحقك مع الجواهري الكبير مؤبناً وراثياً الرصافي في ذكرى وفاته :
لغز الحياة وحيرة الألباب
أن يستحيل الفكر محض تراب
ان يصبح القلب الذكي مفازة
جرداء ، حتى من خفوق سراب

 
القراءات 319 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78630

حاليا يوجد 13 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions