قال لي عبد الله
من " كوفي شوب فوانيس " في شارع الجاردنز بالعاصمة الأردنية عَمان التي اتخذها الشاعر العراقي حميد سعيد معتَكفاً ، وعنواناً ، والتي يصلها عادة ساعة تفتح أبوابها ، ليتصفح جريدة يومية ، ويجد على طاولته فنجان القهوة المُرّة وكأس ماء بارد من دون أن يسأل النادل ، وفي يوم شتائي ، من أيام شهر كانون الثاني ، تبدأ أحاديث كتاب " قال لي عبد الله " لحظة توقف الشاعر عند مقالة بعنوان " قول في شخصية الإنسان " جاء فيها إن ذاكرة الإنسان ليست حيادية ، بمعنى إنها لا تنقل ما كان وما حدث ، نقلاً آلياً أو موضوعياً ، بل تتدخل في مجرى الأحداث ، فتضيف ما تضيف ، وتسقط ما تُسقط .
وبينما كان سعيد يحاور ما جاء في هذه المقالة ، اقترب عبد الله من طاولته ، وقبل أن يجلس يبدأ الحديث عن علم النفس الذي يوسع مساحة الحواس التي لا تتسم بالموضوعية . ومن هذا اللقاء الصباحي الذي لم يكن هو اللقاء الأول بينهما ، شاءت الكتابة أن يبدأ الشاعر ، من دون أن يلزم نفسه فيما سيكتبه ( من أقوال عبد الله ) بالتسلسل الزمني الذي جرت فيه ، لكن الحديث يبدأ من علم النفس والفرق بين الإنسان الإيجابي والإنسان السلبي ، مروراً بموقف المتنبي ، حين جاءه وهو في الكوفة خبر وفاة خولة ، أخت سيف الدولة ، واستذكاراً للشيخ الجليل الباحث المعاصر الشيخ محمود شاكر ، مؤلف أهم كتاب في العصر الحديث عن أبي الطّيب ، والذي : " حاول أن يجد في شعر المتنبي وفي سيرته ما يحيل إلى علاقة حب بين خولة الحمدانية والشاعر العظيم " .
ولأن العراق لا يفارق الشاعر فقد داهمه عبد الله – الذي يمثل صوت الشاعر الداخلي ومحاوره - يوماً وهو يفكر بما حدث ويحدث في العراق ، بفعل عدوانية المركزية الغربية ، ومثل ذلك ما حدث في فلسطين ويحدث ، وهذا الحال طالما قاده إلى أسئلة تتعلق بالفعل الحضاري لهذه المركزية العدوانية مع اعترافه بضخامة الإنجاز الحضاري الغربي التاريخي : " غير أن مواصفات الحكام لم تتغّير من أباطرة أوربا إلى رؤساء أميركا. ويتدخل عبد الله كعادته في هذا الحوار مشيراً إلى أن انجازات الأوربيين للحضارة الإنسانية : " لم تستطع ان تدفع حربين كونيتين مدمرتين ، وقبلهما وبعدهما مئات الحروب الإستعمارية والتوسعية والممارسات الوحشية ضد الشعوب وأوطانها وخصوصياتها القومية والثقافية " . ويقاطع الشاعر الذي يصف نفسه بالمريد شيخه عبد الله بالقول : " يسمّي العملاق الإغريقي كازنزاكي ، الهوة بين التقدم المادي وتراجع القيم في الحضارة الغربية المعاصرة " الهوة المظلمة " ولعل السيّاب من بين الذين أدركوا هذه الهوّة ، فواجهها بما يذكرنا بأدعية الشعر الرافديني القديم " ، ثم تأتي الإشارة إلى اعتراف هنري ميللر، وهو رمز من رموز الإنجاز الحضاري الغربي المعاصر : " نحن امة متسممة ، تعيش انحطاطها " .
وفي يوم من أيامه التي طالت بعمّان ، والتي تكاد تتكرر من دون تغيير ، خطر للشاعر الذي لا تفارقه نكبة العراق لحظة واحدة ، حديث الروائي التشيكي ميلان كونديرا يتعلق بالإحتلال الروسي لبلاده ، ففي اليوم الثالث للغزو كان ميلان يقود سيارته فأوقفه ضابط روسي ليسأله عما يشعر به وعن عواطفه ، موضحاً أنه لم يكن يقصد الإستفزاز والسخرية : " عليك بأن تعرف بأننا نحب التشيكيين ، نحن نحبكم جميعاً ، فلماذا لا يريد التشيكيون الذين نحبهم جداً ، أن يعيشوا معنا وأن يعيشوا مثلنا ، ياللأسف ان نضطر إلى استخدام الدبابات ، لنعلمهم طبيعة الحب ؟ ! " . ويتساءل كونديرا إن كان الضابط الروسي يدرك ما يقول ؟ : " وهل كان ساذجاً إلى حد الجرأة على القول بأن دبابات المحتلين ، بإمكانها أن تعلم الشعب الذي تدوس سرفاتها على كرامة ترابه الوطني .. الحب ؟ ! " .
بعد هذه الصفحات التي تستعرض مجموعة من المقالات الثقافية والأدبية وأسماء عدد من المبدعين والكتاب ، يأتي حديث الشاعر عن معرض الموسيقيين العراقيين وما آل إليه بعد الغزو الأمريكي لبغداد ، وهو المشروع الذي بدأ برسوم " كرافك بورتريت " لرموز الحركة الموسيقية والغنائية في العراق ، في القرنين الأخيرين ، وكان الملا عثمان الموصلي أول فنان ، تقدمت صورته المعرض ، ثم صور قراء المقام العراقي أحمد الزيدان وعباس الشيخلي ورشيد القندرجي ، ومن المطربين يوسف الكربلائي وصديقة الملاية وعبد الأمير طويرجاوي . " وضم المعرض كذلك صور الفنانين العرب الذين عملوا في العراق ، أمثال الشريف محيي الدين حيدر والشيخ علي الدرويش وروحي الخماش وجميل قشطة .... كما ضم المعرض آلات موسيقية لفنانين بارزين ، منها عود الشريف محيي الدين حيدر وكمنجة جميل بشير.... ومممتلكات شخصية لبعض الفنانين ومنها " مسبحة" المطرب الكبير داخل حسن " ، غير أن الغزو الأمريكي سبق موعد افتتاح المعرض في البناية التراثية التي تقع عند مدخل شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي : " وهكذا نهبت محتويات المعرض أو أتلفت ، ولا ادري إن كان الغزاة وأدواتهم المحلية أو التي جاءت معهم ، أرادوا بفعلتهم هذه الثأر من حناجر القبانجي ويوسف عمر وحضيري أبو عزيز وناظم الغزالي وناصر حكيم وزهور حسين او من أوتار عود عباس جميل وكمنجة غانم حداد وناي خضر الياس واصابع خضير الشبلي ؟ ! " .
ولا يلبث حميد سعيد أن ينتقل في الحديث عن جائزة نوبل للآداب وفوز نجيب محفوظ بها ، والآراء المتناقضة التي قيلت في ذلك ، مشيراً إلى مقالة بقلم عبد الهادي الطرابلسي تنوه إلى : " إن جائزة نوبل للآداب شغلت غير واحد من المثقفين العرب ، منذ عشرينيات القرن الماضي ، وبعد أن مُنحت في العام 1913 للشاعر الهندي طاغور " ، ثم يطرح سعيد وجهة نظر سليم سركيس بشأن أحمد شوقي ونوبل : " وكان الشاعر أحمد شوقي ، الإسم الأكثر حضوراً في ما كتب بشأن منح الجائزة لأديب عربي : " ذلك ان سركيس يعتقد بأن شوقي يستحق الجائزة ، وفي الوقت نفسه يعتقد إن الإستحقاق وحده لا يكفي " . أما طه حسين فيرى : " إن شعر طاغور شعر إنساني وإن شعر شعرائنا شعر أشخاص وظروف ، ولطاغور فلسفة كما للمعري والمتنبي فلسفة ، فأين فلسفة شوقي أو حافظ أو مطران ؟ " ، لذلك يرى طه حسين ان شعر شوقي أو حافظ لو ترجم إلى الانكليزية أو الفرنسية أو الألمانية ، فإنه لن يضمن لأصحابه جائزة نوبل ، كما ضمنها لطاغور ؟ .
ثم تأتي صفحات مشوقة وممتعة عن مجنون بني عامر ، وقبيلة عذرة ، والحب الصوفي ، وكتاب الاغاني لأبي الفرج الأصفهاني ، والأغنية السومرية ، وإنانا وديموزي – عشتار وتموز ، والف ليلة وليلة ، والصراع بين المظهر والجوهر في الجمال ، وفكرة الجمال ، والكتابة بلغة الآخر ، والسجن اللغوي ، وعلاقة النقد بالإبداع ، ومعايير النشر وتتضمن حكايات مع سهيل ادريس صاحب دار الآداب التي نشرت المجموعة الشعرية الأولى لحميد سعيد " لغة الأبراج الطينية " وكان الشاعر يومها في العشرين من عمره ، وحكايات عن الرسام نجيب يونس ، وابراهيم الموصلي وابنه اسحاق ، وعمر الخيام والرباعيات ، ثم ثلاث أوراق يختتم بها الكتاب عن أدوارد سعيد ، والشاعرة الكندية مارغريت آتود ، والكاتبة الأمريكية من أصول أفريقية أليس ووكر .
إلا أن من أكثر قصاصات الصحف القديمة التي وصلت بظرف متوسط الحجم إلى المقهى ذات صباح ، تشويقاً وإثارة ، هي تلك المتعلقة بالمبدعين الذين أصيبوا بالسرطان : " وسرطانات المبدعين ، مقالة كتبتها لصحيفة الرأي الأردنية .. وقد اهديتها إلى صديقي محمد طمّلية .. قبل وفاته " . فضلاً عن طمّلية " الولد العبقري " وعلاقته الحميمة بسرطانه ، تتوالى أسماء وحكايات المبدعين " المتسرطنين " من أمثال الرسام والروائي محمود عيسى ، والروائي محمد شكري " الولد الشاطر " . وحكايات أخرى عن المبدعين الذين ابتلوا بمرض السرطان : الرسام كاظم حيدر ، والشاعر أمل دنقل ، والقاص محمد زفزاف ، والشاعر ممدوح عدوان ، والروائي فؤاد التكرلي : " وإذ تنتهي السرطانات أحياناً من تحقيق أهدافها في تغييب الأجساد ، فهي تؤكد بأنها عظيمة الجهل ، حيث يتواصل حضور من أشرنا إليهم ، في الموت كما في الحياة " .
ولظاهرة الانتحار بين الكتاب ، نصيب في أقوال عبد الله مع مريده حميد سعيد ، و" كان عمرو بن كلثوم ن اول شاعر عربي قضى انتحاراً ، وما كان انتحاره بفعل الحزن أو اليأس أو العشق ، وإنما بفعل ما عرف عنه من كِبَرٍ وأنفَةٍ " ، ولم تكن ظاهرة انتحار الشاعر والكاتب العربي شائعة أو معروفة حتى بدايات القرن العشرين الذي شهد النصف الأول منه : " انتحار اثنين من الشعراء المصريين الشباب ، هما أحمد العاصي سنة 1930 وفخري أبو السعود سنة 1940 . ثم يأتي انتحار الشاعر السوري عبد الباسط الصوفي سنة 1960 " . وفي سنة 1973 انتحر الشاعر الأردني تيسير سبول ، اعقبه بعد عقد من الزمن ، الشاعر اللبناني الكبير خليل حاوي الذي انتحر سنة 1984 : " ونجد إن كلاً من سبول وحاوي ، كان لانتحارهما علاقة بالصراع العربي الصهيوني ، فالأول انتحر بسبب ما آل اليه الوضع العربي بعد سنة 1973 وانتحر الثاني احتجاجاً على احتلال بيروت " . ويُختتم حديث المبدعين المنتحرين بأشهر حوادث انتحار الادباء العالميين من أمثال الشاعر الروسي مايكوفسكي ، والروائي النمساوي ستيفان زفايج مع زوجته ، والروائي الأمريكي آرنست همنغواي ، والشاعر الإيطالي سيزار جافيز ، والكاتب الياباني يوكو يوميشيما الذي شكلت عملية انتحاره سنة 1970 : " طقساً درامياً فاجعاً ومثيراً ن حيث قام مع عدد من مريديه باحتلال كلية الأركان العسكرية بطوكيو ، ومن شرفة تطلّ على ميدان التدريب ، ألقى خطاباً ندّد فيه بخضوع اليابان للسيطرة الأمريكية ، وطالب بتغيير الدستور الذي فرض على اليابان في العام 1945 ، ثم أقدم على الانتحار بطريقة الهاركيري ، طريقة الساموراي اليابانية ، بغرز السيف في بطنه ، وإخراجه من الظهر أمام الحاضرين ، وقام أحد زملائه بقطع رأسه لإنقاذه من الألم " .
______________________________________________ بغداد
الكتاب : قال لي عبد الله
المؤلف : حميد سعيد
الناشر : دار دجلة ناشرون موزعون
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.