مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

في الذكرى 14 لوفاته : رسالة شخصية نادرة لمدني صالح

قيم هذه المقالة
(0 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email

بكى ثلاث مرات .. ولم تطفر منه دمعة عند وفاة أبيه
جدته الأنيقة لا تلحق غبارها أنجح أم بيت انجليزية
تحية ملؤها الأباطيل والأوهام ليوسف نمر ذياب !

في منتصف الثمانينيات ، كنتُ أفكر بتحرير ملف عن أستاذنا مدني صالح من دون علمه ، فلو علم لرفض بإصرار ، لأنه كما وصف نفسه في رسالة خاصة لي بأنه " غير احتفالي غير منبري غير خطابي .. الاّ الاحتفال الدائم بالاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير " . وخططت لإصدار الملف ضمن الصحيفة التي أعمل فيها متعمداً مفاجئته عند صدوره ، ولهذا قمت بالتهيئة لجمع المادة التي حرصت على أن تتضمن جوانب من حياته وطباعه الشخصية فضلاً عن نتاجه الفكري والفلسفي والأدبي ، ومن أجل ذلك ذهبت إلى مدينته هيت والتقيت بأحد معارفه الذي عرض أمامي رسالة شخصية كتبها مدني صالح إلى ابن خالته شفيق عبيد ياسين بداية الستينيات حين كان طالب دكتوراه في جامعة كيمبرج البريطانية ، وسمح لي الرجل باستنساخها بعد أن فهم مهمتي الصحفية . لكن ولسبب ما لا أتذكره الآن ، أو ربما بسبب الكسل وفتور الهمة ، لم استمر في العمل لتنفيذ فكرة الملف ، وبقيت الرسالة بين أوراقي القديمة إلى أن عثرت عليها مصادفة هذه الأيام التي تصادف الذكرى الرابعة عشر لرحيل مدني صالح في 17 تموز 2007 .

وفضلت أن أنشر الرسالة التي قمت بتنضيدها على الآلة الحاسبة من الصورة المُستنسخة ، كما هي من دون أي تدخل مني - إلا في بعض التعديلات الطفيفة في رسم الكلمات التي تنتهي بتاء مدورة ، حيث كتب التاء من دون تنقيط لتصبح هاءً ، ربما بسبب السرعة وعدم مراعاته ذلك لأنها رسالة شخصية ليست للنشر ، أو لأنه تعمد كتابتها كما تلفظ على اللسان مثل كلمة ( الصَّبه ) بدلاً من الصَّبة ، أو ( طَّمه خريزه ) وعدد من الكلمات الأخرى ، وكأنه لا يكتب رسالة لشخص بعيد ، انما يتكلم بالعامية معه وجهاً لوجه ويسترجع معه ذكريات الماضي بأفراحها وأحزانها .

وتلقي الرسالة الضوء على الجوانب النفسية والعاطفية لشخصية مدني صالح ، ومنها روحه الساخرة التي يدركها القاريء اللبيب ما بين سطوره وتلميحاته ، وكذلك ذكرياته المؤلمة والحزينة وتوجسه من وقوع وفاة ما لأحد أفراد أهله في زمن كانت الرسائل البريدية التي قد يستغرق وصولها عدة أسابيع أو شهور هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لنقل السلام والتحيات والأخبار العائلية بين الطلبة المبتعثين خارج العراق وذويهم .

لن أحرمكم أكثر من متعة قراءة رسالة مدني صالح التي مر عليها ما يقرب الستين عاماً ، وأصبح من حق القراء الاطلاع عليها لكونها صارت في ذمة التاريخ ، ووثيقة عامة لشخصية تركت بصماتها المؤثرة في المشهد الثقافي والأكاديمي العراقي لسنين طويلة ، واصبحت معظم شخصياتها إن لم يكن كلها في ذمة الله وعفوه ورحمته ... أتركها لكم بتعبيراته وذكرياته ووصفه ، ومنها رسمه وهو يصف قنينة ( شيشة ) ماء الورد التي لعب بها يوماً مع أقرانه على سطح بيت جده ، وبقيت عالقة في ذهنه لأنه يعدها أعز أثاث بيت جده ! .

أخي محمد .. تحياتي واحتراماتي

قد تسأل عني .. بخير ..

صحتي جيدة وجداً جيدة . شغلي موفق وطبيعة شغلي كتابة اطروحة دكتوراه بالفلسفة بدأت في 7 /10 / 1957 .. طبعاً كأنها البارحة !! ولم أنته بعد والسبب بسيط هو انني " شوية كسول "

وبعد هذا الغياب بدأت أشتاق للعراق ، ولا أشتاق ، أريد تعجيل العودة ولا أريد ، وأرغب في انهاء شغلي بسرعة ولا أرغب ، ولكنني حتماً سأعود " بلادي هواها في لساني وفي دمي يمجدها قلبي ويدعو لها فمي " .

طبعاً هذا رمضان ، ورمضان من المناسبات التي تثير بي شوقاً شرقياً حاراً الى أشياء كثيرة منها مشية سويحلي مع العزيز عباس السامرائي أو مع العزيز يوسف نمر ذياب وتبادل احاديث مخلصة عن الحب والجمال والنساء وتفاهة الحياة !! وطبعاً مع عباس عن مدير المدرسة ومع يوسف عن طالبات كلية الآداب اللواتي " لا صار منهن ولا نوجد !! "

تحية " حسب الأصول " لعباس وتحية ملؤها " الأباطيل والأوهام " ليوسف . رجاء حاول تبلغهما

وكيف أنت .. تحياتي اولاً لرقية ورقية طيبة قلب جداً ليست بليدة كما نتصور خطأً .. طبعاً كانت كسولة حينما يأتي دورها بالصَّبة

كنا رقية وزينب ومجيد وأنا نأكل اربعة صَّبات وفي كل مرة يأخذ واحد منا الماعون الى جدتي لتملئه .. وكنا يجب أن نأكل الأربعة صَّبات حتى ولو شبعنا من الصَّبة الأولى إذ يجب أن يقدم كل منا صَّبته .

كنّا نأكل هذه الصَّبات " صفار الشمس " على سبيل التفكه قبل العشاء

رقية كانت كسولة بالصَّبة ولهذا السبب سميتها خمامة وكنت اسمي حتى خاشوقتها أم خمامة .

زينب كانت تضعني على كتفها وتمشي بي الى الحِب لأشرب أما رقية فكما قلت لك كسولة .

ولعلك لا تدري انها اخذتني مرة الى بستان الحجي وتركتني قرب الحصان وراحت تلعب طَّمة خريزة مع البنات .. واسألها ماذا حصل ؟؟ يا أخي نهشني الحصان من صدري .. ودفع الله شراً كبيراً

انها اوشكت أن تبلي بيت الحجي بدم آخر اذ تدري اننا بيت اسماعيل مازلنا نطالب بدم عمي كريم الذي أخذه جدي الحجي لبناء كرد الدرستانيه فاندفن عليه راط الكرد

على كل لا أدري فيما إذا كانت رقية تتذكر هذه الأشياء .

أما أنا يا محمد فبلوتي أنني استطيع أن أصف بكل دقه مهدي وطينة مكة المعلقة في عاموده . من أبي اتذكر اشياء كثيرة أما يوم دفنه فكأنه البارحة .. عبد الحميد احمد حبيب هو الذي جلب الغطوة التي كانت على الصندوق .. جلبها بعد الدفن .. اتذكر الموضع الذي كانت امي فيه جالسة .. اتذكر انني وقفت على شباك الغرفة المطل على الطرمة وتحاملت على نفسي ماسكاً براصدة الشباك الوسطانية ونظرت الى الغرفة وإذا كل شيء فيها منثور وأبي قد راح !!

لا أطيل عليك استطيع أن اعطيك طولي إلى آخر انج يوم ذاك .. هذا من وضعتي وتحاملي باجهاد على راصدة الشباك الوسطانية كانت في نظري حينذاك أعلى شيء في الدنيا بعلو المنارة ..

ثم صعدنا على السطح ولعبنا المرحوم ستير وأنا بشيشة ماء ورد حبّذا حبّذا لو كانت هذه الشيشة موجودة الآن هي بهذه الهيئة ( يرسم مدني شكل الشيشة مؤشراً على غطائها : قبغ تنك مثقب !! ) . معذرة عن الرسم المشوه لكنها أعز آثاث بيت جدي عندي اعز حتى من شلف الركي وحوله الرمان والنومي الموضوع على الرف وقد صفت بجانبه جدتي الأنيقة مواعينها ..

وبالمناسبة جدتي آنق سيدة قد عرفتها .. وقد لا تصدق أن انجح ام بيت انجليزية لا تلحق غبارها ..

عل كل .. الحديث عن الذكريات

مات أبي .. ما طفرت مني دمعة ثم لا أتذكر انني بكيت الاّ وأنا في الخامس ثانوي .. مات استير يا أخي .. كنت في الرمادي فنزلت الى الشط اتمشى وابكي كي لا يراني مخلوق أبكي .. كي لا يحزن لحزني صديق ولا يشمت بي عدو ..

ومات خالي عبد الحميد وبكيت

المرة الثالثة كانت حين ممات جدي عبد المنعم وما كان بكاءً مؤلماً لأن الرجل ما خلف مأساة .. خلف عائلة شامخة

كم صار عندك ثلاثة .. ثلاثة مرات بكيت مرة لممات استير لأن مماته تماماً كسر لي اجنحة بها اطير .. أنت لا تعرف استير يا أخي استير كان ابي نسخة طبقه الأصل .. ثق انني بكيت واسترحت وطبعت نفسي على أنه قد راح ولم يؤثر الحزن على دراستي وكان عندي بكالوريا علمي وقد لا تدري انني كنت الناجح الوحيد في لواء الرمادي تلك السنة

اتدري لماذا اذكر لك هذه الأشياء لكي تؤمن بأن موت الأعزة لا يؤثر على دراستي ابداً اعطيتك مثلاً وكنت صغيراً في الخامس ثانوي والآن يا أخي من مات من أهلي ..

أنا لا أعلم الغيب لكن قلبي يقول لي قلبي يقول لي أن أهلي قد نقصوا

إن المنطق يا أخي يقتضي أن أعرف فرجاءً رجاءً تخلص معي وتكتب لي رسالة بصدق

ثق سوف لن أحدث اكثر من بكاء ساعة وبعده اخابر بالتلفون بعض اصدقائي واخرج معهم الى حيث انسى المصاب الأليم .. رجاء ابعث الجواب حال استلامك رسالتي

تحياتي للجميع

اخوك

مدني صالح

كيمبرج في 1 / 3 / 1960 ( أو 1963 لعدم وضوح الرقم الأول من السنة بسبب قِدم استنساخ الرسالة ، وأرجح سنة 1963 اعتماداً على سياق الرسالة وسنوات دراسته الماجستير والدكتوراه في بريطانيا )

وهذا عنواني آمل انه بخط واضح إذ تذكر أنك شكوت مرة من ردائة خطي وأنا اتفق معك بأن خطي يأتي على رأس قائمة الاشياء الرديئة عندي ( يكتب مدني عنوانه بالانجليزية ) .

 

 

القراءات 326 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78629

حاليا يوجد 10 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions