مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

جرهم .. فنطازيا على هامش التاريخ

قيم هذه المقالة
(2 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email

 

لأعترف أولاً .. لم أقلب صفحات الكتاب السابق لمفيد عباس " كلكم عيوني " على الرغم من استلامي نسخة مهداة منه في وقتها ، والسبب انطباعي الأولي بأن الكتابَ ليس أكثر من منشورات وتعليقات فيسبوكية ، الكثير منها كُتب باللهجة الدارجة ، والبغدادية المحلية تحديداً ، ولم أكن أتخيل بأن مزاجي في القراءة يمكن أن يستوعب مثل ذلك الكتاب الذي يُقرأ من عنوانه الشعبي ، أو أن أضيع فيه وقتاً ، فتخلصت منه سريعاً ! .

ولأعترف أيضاً .. استلمتُ نسختي من كتابه الثاني " جرهم .. فنطازيا على هامش التاريخ " مع بدء هذا العام ، وفي كل مرة حين يقع هذا الكتاب بين يدي مصادفة أثناء ترتيب مكتبتي ، أنقله من خانة إلى أخرى ، إلى أن حانت لحظة المزاج قبل يومين ، فقلت لألقي عليه نظرة سريعة ، وإذا بالنظرة هذه تأخذني بلا توقف بين صفحات " جرهم " الرواية الفنطازية الشعبية الهزلية الساخرة ، التي تضطرك لأن ترضخ لشروطها مقابل المتعة والتشويق والطرافة والجرأة والخيال الجامح ، وشروطها بسيطة للغاية : لا تكن مُعَقداً ، ولا متصلباً في اللغة ، واترك قواعدها ، فلا إنَ تنصب المبتدأ ، ولا كانَ ترفعه ، ولا حروف الجر تجرُ . ولا تكن محدود الخيال ، فلا تستوعب كيف يمكن وجود الموبايل والفيسبوك والستلايت ورياض الأطفال وبقلاوة أبو عفيف في السنوات الأولى للهجرة النبوية ؟ . والأهم من ذلك كله أن تسقط حسابات المكان والزمان ، والمعقول واللامعقول على ما تقرأ ، ذلك أن مفيد عباس قد أسقط ذلك من حساباته ، فبات مغرداً ساخراً على راحته ، يتنقل بين مكة والمدينة ومضارب بني دئل، وبني حسحسة ، وعرعر ، ومعسكر المحاويل ، والمشخاب ، ويسخر من الحاضر تحت عباءة الماضي ، فلا أحد يمكن أن يعاتبه أو يلزمه الحجة ، ولا خطوط حمر توقفه عن التوغل في خياله الفنطازي المنفلت بلا حدود ، فالرواية هي في النهاية تخيلية هزلية شعبية ، وإن كنت تخشى الحديث بصراحة عن التاريخ .. فنطزه ! ، بل أن عباس احتاط لأي نوع من المخاطر حين نوه في بداية روايته إلى أن : " الشخوص الرئيسية في هذه الرواية من وحي الخيال .. وليس لهم وجود تاريخي فعلي .. كما هي أحداث الرواية " .. فالشخوص إذن والأحداث كلها من وحي الخيال ، وهي بحق لعبة ماهرة ، تحتاج إلى نمط من الكُتاب اللماحين الأذكياء ، الذين يمتلكون حزيناً معرفياً تاريخياً جيداً ، وجرأة بالغة في الاقتراب من محرمات لا يكون الاقتراب منها هيناً ، لو كتبت في أي اسلوب آخر غير هذا الأسلوب الذي توفرت عليه لعبة " جرهم " المغرقة في الخيال والفنطزة والسخرية . وهي لعبة ذهنية ذات استخدام مزدوج ، تُلعب مرة للهروب من التاريخ الخطير إلى الحاضر ، وأخرى للتملص من الحاضر الخطير بالهروب إلى التاريخ ، ومفيد عباس سعيد بلعبته هذه ، لأنها في النتيجة مجرد فنطازيا على هامش التاريخ . ومن يحاسب المجنون على جنونه ، ومن يحاجج المتفنطز بسبب فنطزته على هامش التاريخ ، مع انها في صلب التاريخ ؟ ! .

دع ذلك كله ، واستمتع بواحدة من أجمل الروايات الشعبية الهزلية التي كاد فنها أن يغيب عن المكتبة الأدبية ، لتكتشف أن الرواية الشعبية المحكية باللهجة البغدادية المحلية ، وبسردية الخيال والشخصيات المبتكرة ، والأحداث اللامعقولة ، يمكن أن تجد لها جمهوراً واسعاً من القراء ، على يد كاتب مبهر في خياله الفنطازي الجامح ، كاتب ساحر يدفع قارئه لأن يضحك مع كل صفحة من صفحات الرواية ، حتى إذا انتهى منها ، بقيت شخوصها وأحداثها وأماكنها تداعب خياله ، بعد أن نجح في مهمته الفنطازية التي اصطحبنا فيها عبر أكثر من الف وأربعمائة عام في قوافل على ظهر حصان أو جمل ، نتنقل بين مدن التاريخ الإسلامي ، لكن من دون أن نتخلى عن أجهزتنا الإلكترونية الحديثة ، ورسائل المسج على تلفون " الگلاكسي " ! .

وجرهم بن كُليب الخزاعي ، كما يعرف نفسه ، كان يمتلك دكاناً في مكة لبيع الآلهة ، وكان يحب حنتمة بنت عياض المخزومية ، وهي بائعة لديها " بسطية " مقابل دكانه : " تبيع كفشة الاذرة للچلاويهم تعبانة ... صيدلانية مال ذاك الوكت " وفي هذه الأثناء دخل الإسلام مكة فأصبح عمل " جرهم " محظوراً وخطيراً ، فقام بجمع تماثيل الآلهة ودفنها لعله يحتاجها إن تبدلت الأحوال ، ثم فكر بتغيير عمله فكلف أحد الخطاطين ليخط له لوحات من الآيات القرآنية ، مثل آية الكرسي وعبس وتولى ، عرضها للبيع في محله مع " بطالة مي زمزم " بعد أن أخفى تماثيل آلهة قريش . أما حبيبته حنتمة فقد تحجبت ، وتخلت عنه ، باتجاه أريقة المضمد : " لأن چان يبوگ سبيرتو ولفافات من المستشفى العسكري ويجيبلها " . هههههههههه . وفشلت كل محاولاته في استمالة حبيبته التي تخلت عنه ، فأرسل لها " مسج " على تلفونها دون فائدة ، ورسائل على صفحتها في الفيسبوك التي تحمل اسم " توته الحنفوشة " لكنها كانت قد عملت له " بلوك " ! ، إلى أن يئس لتحدث مصادفة يتعرف فيها على حبيبة جديدة هي جمانة بنت بديل الدئيلية ، من بني دئيل بن بكر : " وهذولة علاقتهم بخزاعة كلش خربانة " و " عمامي وعمامها صاير بيناتهم كسر عظم " ، فسأل " جرهم " الذي باتت جمانة تناديه " جرهومي " وهو يناديها تدليلاً " جمنمن " عن كبير بني دئيل بن بكر ، فقالوا له انه صمصم بن قنيدح الدئيلي : " فتذكرته ، هذا جان كلما يجي لمكة حتى يحج ، يشتري من عندي تشكيلة مال آلهة ، يوزعهن كصوغة مال بركة ، وچنت أنطيه فد قطعة أو قطعتين ( العزة ومناة ) كهدية ، لأن چان ميشلع گلبي بالعملة ، وبما انه الجماعة بعدهم مداخلين الاسلام ، خلي اطلع الگونية مال الاصنام اللي دفنتها البارحة جوه المرجوحة ، واخذها بيدي هدية الهم ، ووياها بقلاوة من ابو عفيف ، بلكي صمصم يوافق وينطينياها "! .

باستطاعتي التوغل بعيداً في أحداث الرواية ، فلا مانع من قراءتها ثانية ، لأنها بمثابة وصفة كتابية لتعديل المزاج إن كنتَ متعكر المزاج ، فهي تسرق الضحكة من بين شفتيك شئتَ أم أبيتَ ، وما ذكرته من بعض مقاطعها باللهجة العامية التي كتبت بها ، إنما ذكرته لتكون فكرة عن لغة الرواية ، التي هي ليست مجرد نكات ومواقف هزلية طريفة ، بل هي تجمع خيوطها في حبكة روائية متقنة ، وتسلسل للأحداث ، وفيها مفاجآت درامية ، ومفارقات لا تخطر على بال ، صاغها مفيد عباس بصبر وبراعة مذهلة على تطويع اللهجة المحلية لكتابة رواية تاريخية هزلية فنطازية – سمها ما شئتَ – لكنك حين الانتهاء منها ، لن تشعر بالأسف لأنك أضعت فيها وقتاً أو جهداً . وكان د . طريف كامل الشيبي محقاً في التمهيد الذي وضعه للرواية حين كتب : " سيبقى جرهم رغم كونه حجازياً جاهلياً مرح الطبع بغدادياً منفتحاً ، تمر به المنايا والمتغيرات الاجتماعية والسياسية والدينية القاسية مرور الكرام ، فهذا الجرهم لينٌ سمحٌ لا ينكسر ، انه نموذج للفرد الانسان ، الذي يريد ان يعيش يومه مقبلاً على الحياة ، يمنح الحياة قيمة ومعنى مهما كان الظرف " .

لا يحتاج قاريء هذه الرواية إلى قدر كبير من النباهة ، ليتوصل إلى أن " جرهم " يمثل الشخصية المدنية المعاصرة ، التي تريد العيش بأمن وسلام ، بعيداً عن الحروب والغزوات والاقتتال ، وسيجد ذلك في مواقف كثيرة ، يواجهها جرهم في بلاد الحجاز ، أو بعد انتقاله إلى مدينة المشخاب في العراق ، بعد أن وصفوا له جمال هذه البلاد ، وكثرة خيراتها ، وطيب ثمارها . مثلما سيجدها في حياته الاجتماعية التي يرغب أن يصونها بالحب وتدليل الزوجة الحبيبة ، والشعور بالجمال ومتعة الحياة ، من دون أن ينغصها أعداء الحياة .

________________________________________________ بغداد

 

القراءات 825 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78630

حاليا يوجد 10 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions