مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

أفاعيل السِحر في الخيمياء وعظم الهدهد

قيم هذه المقالة
(0 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email

 

حين أصدر الروائي البرازيلي باولو كويلو روايته القصيرة والأكثر شهرة " الخيميائي " في العام 1988 فإن دور النشر العالمية دخلت في السنوات التالية سباقاً محموماً لإعادة طباعتها بعد ترجمتها إلى أغلب اللغات المعروفة ، حتى قيل أن هذه الرواية التي تُرجمت إلى ما يقرب من ثمانين لغة ، دخلت موسوعة غينيس للأرقام القياسية لكونها أكثر كتاب تمت ترجمته إلى لغات أخرى ، لكاتب مازال على قيد الحياة – يبلغ كويلو من العمر الآن 74 عاماً - .

ومنذ ذلك الحين كُتبت عشرات وربما مئات العروض والمقالات النقدية والتقييمات الأدبية ، تراوحت بين الاعجاب الشديد بالرواية ووضعها كواحدة من أعظم روايات القرن العشرين ، وبين مستهين بها ، ومستغرب من الاهتمام العالمي الواسع الذي حظيت به ، مع أنها – على حد وصفهم – لا تعدو عن كونها كتاباً من كتب التنمية البشرية التي ترسم للقارئ طريق النجاح وكيفية تحقيق حلمه وإنجاز أسطورته الشخصية ، صاغها مؤلفها بأسلوب روائي لا أكثر . ولسنا بصدد اعادة تقييم هذه الرواية العالمية من جديد ، أو الميل نحو أي من الطرفين في تقييمها ، فلن نضيف شيئاً جديداً إلى ما كتبه طيف واسع من النقاد والأدباء والأكاديميين والباحثين في الأعمال الروائية خلال أكثر من ثلاثين عاماً على صدورها ، بل حتى أن بعض القراء أخذتهم الحماسة ليعبروا بمختلف وسائط النشر والتواصل ، عن اعجابهم ، وانطباعاتهم المتباينة عن هذا العمل الذي اجتاح المسكونة مثل اعصار شديد في عالم الأدب والرواية الحديثة والمعاصرة .

الخيميائي وأسطورة نرسيس

وإذا كانت " الرواية " تبدأ في باحة كنيسة قديمة مهجورة تحت شجرة جميز ضخمة ، بالقرب من بلدة طريفا الإسبانية الواقعة على مضيق جبل طارق، حين يقرر " سانتياغو " راعي الغنم الأندلسي الشاب الذهاب إلى عجوز تقرأ الكف لتفسر له حلمه الذي تكرر لمرتين بينما هو غافٍ تحت ظلال الشجرة ، ويشاهد فيه طفلاً يمسك بيده ويقوده حتى اهرامات مصر من أجل تحقيق اسطورته الشخصية والعثور على كنز مخبأ عند سفوحها ، فإن حوادثها الأساسية تجري في مجتمعات عربية وقبلية صحراوية من طنجة وسبتة المغربيتين إلى واحة الفيوم المصرية ، ابتداءً من لقاءه مع الشيخ العربي ملكي صادق ، ملك منطقة سالم ، الذي منحه الحجرين الأسود والأبيض " أوريم " و " توميم " ليساعداه على اكتشاف مواضع الاشارات عندما يعجز عن اكتشافها ، مروراً بالصحراء الأفريقية ومفازاتها ووديانها وواحاتها وقبائلها وحروبها وغجرها وطقوسها الدينية والسحرية ، ووقوعه في حب فاطمة الفتاة المسلمة ابنة الواحة التي ادرك انها اكثر أهمية من الكنز بعدما شجعته على مواصلة تحقيق أسطورته الشخصية ، حتى لقاءه بمغامر انكليزي يبحث عن الخيميائي الذي يمتلك حجر الفلاسفة ، وهو حجر مكون من قسمين ، الأول سائل هو اكسير الحياة الذي يعالج الأمراض ويطيل الشباب ، والقسم الصلب الذي تكفي كمية صغيرة منه لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب ، وأخيراً يعثر سانتياغو على الخيميائي الذي يقوده في رحلة مفعمة بالتجارب الصعبة ، ثم يتركه في النهاية عند دير قبطي يقع على مسافة ثلاث ساعات من الاهرامات ويطلب منه ان يتابع السير لوحده بحثاً عن كنزه واسطورته الشخصية : " وعندما ترغب في شيء ما ، فإن الكون بأسره يطاوعك على القيام بتحقيق رغبتك " . وبعد مسيرة في الصحراء تنتصب أمام نظره أهرامات مصر ، بكل عظمتها وجلالها ، وهي مضاءة ببدر السماء ، وبياض الصحراء ، وها هو يقترب من العثور على الكنز المخبوء : " جثا على ركبتيه ، وبكى . شكر الله ، لأنه آمن بأسطورته الشخصية ، والتقى ذات يوم ، ملكاً ، ورجلاً انكليزياً ، وخيميائياً ، بل ، وهذا هو الأهم ، التقى امرأة من الصحراء ، جعلته يفهم أن الحب لا يمكنه ، أبداً ، أن يبعد رجلاً عن أسطورته الشخصية " .

وهو يحفر بعد استدلاله من خلال حشرة تمثل له اشارة لمكان الكنز ، وبعد كل تلك العذابات والسرقات والخيبات والحوارات مع الصحراء والريح والشمس ، تداهمه عصابة ترغمه على متابعة الحفر أملاً في الحصول على المزيد من الذهب بعد أن عثروا في جيبه على قطعة ذهبية كان الخيميائي قد أعطاه اياها لمواصلة طريقه ، ولما لم يجد شيئاً انهالوا عليه بالضرب حتى أصبح يحس أن الموت قريب منه ، غير أن زعيم العصابة أخبره أنه لن يموت ، وأنه سيعيش ويتعلم أنه لا ينبغي لنا أن نكون على هذه الدرجة من الغباء : " هنا ، بالضبط حيث تقبع أنت ، رأيتُ حلماً ، قبل سنتين تقريباً ، راودني غير مرة ، فقد حلمت أنَّ عليّ أن أسافر إلى إسبانيا ، وابحث في الريف عن اطلال كنيسة يتردد إليها الرعيان ليناموا فيها مع أغنامهم ، وحلَت فيها شجرة جميَز محل الغرفة الملحقة بالمذبح . حتى إذا حفرت عند جذع الشجرة ، أجد كنزاً مخبئاً ، ولكنني لست على هذه الدرجة من الغباء ، لكي أجتاز الصحراء بكاملها ، لمجرد أنني رأيتُ الحلم نفسه مرّتين ".

نهاية لحلم " سانتياغو " تذكرنا بحكاية السندباد الذي جاب البحار بحثاً عن الكنز المفقود ، ليكتشف بعد رحيل العمر أن الكنز مدفون تحت عتبة داره في البصرة ، مثلما يذكرنا بحكايات " ألف ليلة وليلة " بلغة بسيطة تميل إلى لغة التصوف والروحانيات ، والمواعظ الدينية ، وهذا ما يطغى على مجمل أجواء الرواية التي بدأها كويلو بآيات من إنجيل لوقا : " وفيما هم سائرون دخل قريةً فقبلته امرأة اسمها مرثا في بيتها . وكان لهذه أخت تدعى مريم التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه ..." ثم يمهد للرواية بأسطورة نرسيس " نرجس" مثلما أنهاها أوسكار وايلد ، حيث البحيرة التي تبكي من أجل نرسيس ، ولكنها لم تلاحظ أنه كان جميلاً ، لأنها في كل مرة ينحني فيها على ضفافها متأملاً وجهه ، كانت البحيرة ترى انعكاس جمالها الخاص في عمق عينيه . قال الخيميائي : " يالها من حكاية رائعة " .

الغصن الذهبي

في جانب آخر من العالم ، في بغداد ، أصدر الروائي العراقي علي خيون رواية قصيرة أيضاً ، تحت عنوان " بلقيس والهدهد " في العام 1995 وهي رواية غريبة في مساره الروائي تمثل انعطافه مهمة قادته إلى عوالم السحر والطقوس البدائية للقبائل الصحراوية ومجتمعات البدو الرحل ، فالسحر على الرغم من أنه يمثل المرحلة الأولى من المراحل التي مرت بها البشرية ، بحسب رؤية العالم الانكليزي جيمس فريزر في موسوعته المهمة " الغصن الذهبي " ثم يأتي بعده الدين ومن بعده العلم ، إلا أن التداخل بين تلك المراحل الثلاث مازال جلياً واضحاً ، إن لم نقل متعاظماً في أغلب المجتمعات البشرية ، وربما نستشعر أن الحقبة التاريخية التي نعيشها هي مرحلة العلم ، من خلال الانجازات التقنية والاختراعات التي غيرت وجه الحياة ، وثورة الاتصالات التكنولوجية والمعلوماتية الرقمية ، لكن الدين أيضاً تغلغل بصورة أوسع في حياة الإنسان ، ويمكن القول كذلك أن السحر مازال يلقي بظلاله المؤثرة ، وله اعتباره ودوره في الكثير من المجتمعات البدائية المعزولة ، بالأخص في عدد من بلدان أفريقيا ، وجنوب شرقي آسيا ، وبعض بلدان الشرق الأوسط ، أو حتى على أطراف المجتمعات المتحضرة التي يفترض أنها تعيش عصر العلم والتنوير ، أو في اعماقها ، حيث ممارسة السحر بكل أنواعه ، إلى جانب قراءة الطالع ، وقراءة الكف ، وقراءة الفنجان ، وضرب الودع " التنجيم " وتفسير الأحلام وغيرها . لذلك فإن رواية " بلقيس والهدهد " التي صدرت في سني حصارٍ قاسٍ كان يعيشه العراق وقتذاك ، لامست وتراً حساساً في النفس البشرية التي لا تجد لها حلاً علمياً لمعاناتها ، فتلجأ إلى الخرافة والسحر ، مع ان زمن الرواية يعود إلى العام 1956 أيام العهد الملكي وحكومة نوري السعيد السابعة ( 1954 – 1957 ) .

صدرت الرواية في طبعتها الأولى عن دار الشؤون الثقافية العامة بواقع ألف نسخة نفدت بعد صدورها بمدة قصيرة ، وصدرت الطبعة الثانية عن دار التكوين في دمشق العام 2008 وبكمية مقاربة لطبعة بغداد ، ونفدت أيضاً من المكتبات ، ولم تطبع مرة ثالثة لحد الآن ، وقد عدَّها الناقد العراقي الكبير علي عباس علوان حين صدورها لأول مرة : " إضافة حقيقية للرواية العربية المعاصرة ، وانها ترقى إلى المستوى الإبداع الروائي " ، وكتب عنها شيخ النقاد في العراق على جواد الطاهر مقالا عنوانه بلقيس والهدهد والابداع، مبينا إعجابه بها كما أعجب كثيرا من قبل برواية العزف في مكان صاخب.

وقبل أن نوجز رواية علي خيون – يبلغ خيون من العمر الآن 69 عاماً – ، لابد من تسجيل ملاحظة مهمة مفادها أن هذه القراءة الروائية المقارنة ، لا تعنى بتأثير رواية كويلو برواية خيون ، كما قد يَفهم القاريء خطأً ، منطلقاً من صدور رواية " الخيميائي " قبل رواية " بلقيس والهدهد " بحوالي سبع سنين ، ذلك أن علي خيون لم يطلع على رواية باولو قبل كتابة روايته ، لسبب بسيط أن الرواية اكتسبت شهرتها بعد منتصف التسعينيات، وأنها لم تترجم إلى اللغة العربية إلا في العام 1996 – بعد صدور رواية علي خيون بعام واحد - وهي الترجمة التي قام بها الأديب والكاتب والمترجم المصري بهاء طاهر، وصدرت عن سلسلة روايات الهلال تحت عنوان " السيميائي ساحر الصحراء " ، أعقبتها ترجمات أخرى كثيرة ، أهمها وأدقها ترجمة جواد صيداوي التي اعتمدناها في هذه القراءة ، الصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت ، وبتخويل من مؤلفها البرازيلي باولو كويلو الذي كتب بنفسه مقدمة لسلسلة رواياته الصادرة بالعربية عن هذه الدار اللبنانية ، ومنها رواية " الخيميائي " ، هذا فضلاً عن تأكيد الروائي علي خيون لي شخصياً ، بأنه لم يكن مطلعاً بأية لغة أجنبية ، على رواية باولو كويلو قبل كتابة " بلقيس والهدهد " وصدورها وتوزيعها ووصولها إلى القراء ، وأنه اطلع على ترجمة " الخيميائي " العربية بعد ذلك بسنوات طويلة ، في العام 2006 .

بلقيس وعظم الهدهد

تبدأ رواية " بلقيس والهدهد " بداية جنسية مثيرة ، في دكان ببادية السماوة التي تقع على اطراف الصحراء ، فقد جن جنون سعود بضاربة الودع الشابة البدوية الملثمة مياسة ، بعد أن اخبرته بنبوءتها له : " سوف تصاب بالعمى أو يتوب الله عليك والله أعلم " . فما كان منه إلا أن يركلها بعنف ويسقطها على ظهرها : " فانفرج ساقاها ، ولمح من بين طيات الثياب فخذيها الممتلئتين المزينتين بالوشم " وهنا يهتاج سعود محاولاً أن يغشاها ، وقد هام بها كمن مسه السحر، غير أنها تمانعه بكلمات منعته عن تنفيذ غايته ، حتى أقبل شريكه وهاب ليستأذنه سعود ويمضي مع البدوية حتى اخر المدينة حيث الخيام المضروبة خلف مبنى حكومي . ووهاب هذا زوج بلقيس التي تعلق بها سعود من دون النساء ، وكان يراها في كل النساء ، ومنهن مياسة ، فكأنه يحقق رغبته من بلقيس في النساء اللواتي يتمكن منهن . ومثلما تعرض سعود للخيانة بعد أن وجد زوجته حياة وهي في وضع مخل مع الشرطي زغير، فإنه حاول خيانة شريكه وهاب باستدراج زوجته ، وحين داهمهم الزوج فجأة ، حاول سعود التملص من غوايته لبلقيس وبدلاً من ذلك اتهمها بخيانة زوجها ، لينتهي المشهد بإلقاء يمين الطلاق على بلقيس ، ومقتل وهاب بطعنة مقص كبير على يد سعود الذي وجد نفسه متورطاً بجريمة قتل فيهرب إلى خيام الشَعَر حيث البدوية مياسة التي تهرب به في قافلة على ظهور الحمير ، إلى عمق الصحراء . ومن المفازة يبدأ تفرد الرواية ، حيث الإثارة في بادية السماوة ، وعادات البدو الرحل وعلومهم البدائية وحكاياتهم الغريبة ، وموروثاتهم السحرية ، وعظم الهدهد الذي يخيل لسعود أنه سيمكنه من بلقيس ، غير أنه قاده في النهاية إلى تحقق نبوءة ضاربة الودع . وفي المفازة التي تعني الهلاك والفوز في معنى واحد ، كما عرف سعود ذلك من مياسة ، فإنه يتعرف أيضاً على طيور الواحة ، ومنها الطير البارح والطير السانح ، وكيف تتكلم البدوية مع الذئب فيدبر مهرولاً إلى قلب الصحراء ، ويستمع إلى أنغام الربابة والغناء البدوي الذي يتهادى في الصحراء تائهاً حزيناً بصوت الشيخ والد البدوية : " ياذيب ليش تعوي.. حالك مثل حالي" . ولكي يخفي سعود شخصيته عن الناس في البادية وعن شرطة الكمارك فهو ملاحق عن جريمتين في مدينتين ، قتل شريكه وهاب في السماوة ، وقتل زوجته حياة والشرطي زغير في بغداد قبل هروبه منها ، فإنه يوافق على اختيار اسم جديد هو شاهين السعدان الذي اقترحه عليه والد مياسة وزوجه منها أيضاً ، ثم يتعرف على قصة موحان نجل الشيخ الذي تم خلعه من رامة موضع سكنهم ، واباحة دمه لأنه اتصل بمنبوذين في البادية يشتغلون بالسحر ، وعمل حجاباً من " عظم الهدهد " يغري به النساء .

ظن سعود أو شاهين السعدان ، أنه قد اقترب من غايته التي ستمكنه من بلقيس ، شاغلة حياته وتفكيره ، وحاول الحصول على حجاب " عظم الهدهد " بالبحث عن موحان الهارب المنبوذ من أهله والاستيلاء على حجابه السحري ، وقبل ذلك كان قد خضع لعلاج السحر بعد عجزه عن الدخول في زوجته مياسة . وبالفعل ينجح السعدان في الحصول على غايته : " وشعر بالخوف للمصير الذي ينتظره ، لكن صورة " بلقيس " عادت تلوح له كالسراب الذي يلتمع من بعيد فمضى يحث الخطى عازماً على تنفيذ ما تحدثه به نفسه " . بل ويجرب قبل بلقيس مفعول الحجاب في عدد من النساء فينجح في الايقاع بهن بعد فرك عظم الهدهد بأطراف عباءاتهن أو قطعة من ملابسهن ، وكانت أولى الضحايا خضرة زوجة موحان ، ثم نسمة ابنة شيخٍ زاهدٍ متعبدٍ منعزل في الصحراء ، لولا ان ثعباناً سبقه اليها فقتلها، وبعدهما نجمة التي جاءت مع زوجها الى بيت الشيخ الزاهد بحثاً عن علاج لعجز الزوج ، ثم تهرب مع السعدان بعد أن سحرها بعظم الهدهد ويتمكن منها بسهولة ، لتقتل لاحقاً بين يدي زوجها . " انها خطوات الشيطان " التي تقوده للعودة إلى المدينة بحثاً عن بلقيس ، وحجاب عظم الهدهد المُجرَب في حوزته . وقد نجح في العثور على بلقيس لكنه فشل في اقناعه بالزواج منه ، فهي تعرف انه قاتل زوجها وهاب ، وتعرف ما حل بمياسة من ظلم بعد أن هجرها سعود وهي تحمل ابنه بين يديها ، ولما عجزت في العثور عليه بعد ان ظلت تدور في شوارع المدينة ، قذفت بنفسها إلى النهر : " وطرد سعود أفكاره كلها ، مشجعاً نفسه بأن هذا العظم الذي انتزع من طائر الهدهد ، ليستودع فيه البدو بعضاً من قوى الجن التي أذعنت لنبي الله سليمان منذ القدم ، لابد أن تخضع له بلقيس طائعة ، وسوف يضمها إلى صدره شاءت أم أبت كما أذعنت بلقيس الأولى للنبي سليمان قبل أن يرتد إليه طرفه " .

انتهت كل محاولاته مع بلقيس بالفشل رغم استخدام حجاب عظم الهدهد ، وبدأ يشك في أن : " السحر قد انتهى في هذه اللحظة وهو في أشد الحاجة إليه ، أم ان العظم لم يعد مسحوراً وأن النساء في الصحراء كن يتساقطن بين ذراعي ابن مدينة جرئ وساحر مثل طيور ظمأى تهفو إلى غدير ماء ؟! أم أن العظم يعمل في الصحراء دون المدينة ؟! ". وتأول كل حواراته مع بلقيس ومحاولاته معها ، إلى النهاية المفجعة التي تنبأت له بها ضاربة الودع البدوية ، حين حملت بلقيس المطهاة المليئة بالزيت المغلي لتسكبه على وجه سعود وعنقه وعينيه لينهض من فراشه ، ويتخبط في المكان دون بصر .

لا تنتهي الرواية عند هذا الحد ، إنما يتتبع علي خيون مصير سعود بعد أن شوهت بلقيس وجهه وأصابته بالعمى : " سوف تصاب بالعمى أو يتوب الله عليك والله أعلم " فيروي أن الناس ظلوا شهوراً ، يمرون في سوق المدينة الكبير : " فيبصرون رجلاً مليئاً بالأقذار ، يتدثر بأسمال بالية نتنة ، يسمونه سعود الأعمى ، ويناديه الأطفال سعود الخِبل ، ويقضون النهار صاخبين خلفه ، يرمونه بالحجارة ، وتتهرب الناس منه " و " كانت بلقيس في البدء ، تمر به ، تتأمله من بعيد كأثر قديم يوحي بأيام التحدي والغضب الممزوجة بالحزن العميق " . ثم تحكي لزوجها وهو أحد المعلمين في مدارس المدينة ، وهما في محطة القطار الصاعد إلى بغداد قصة سعود الذي كان يركض بسرعة ، يريد أن يدرك حركة القطار والأطفال يرجمونه بالحجارة . وتناثرت أخبار سعود أيضاً هنا وهناك ، كل يرويها بحسب معلوماته ، ومنهم هراتي جمعة صائد الطيور في الصحراء ، وعبيد الغنام وراهي ضيدان وسلمان سالم السلمان وهو من المقربين إلى سعود ، وكذلك ما رواه بعض المارة من أصحاب الابل ومنهم رحومي الديك ، الذي روى رواية عن مصير سعود تتفق مع ما رواه رجل يدعى حميد البحر ، وكل هذه الروايات الغريبة هي من صنف الاشاعات التي تتصاعد كالدخان الأسود ، لكن : " أشهرها الرواية التي شاعت في السماوة من أنه أصيب بالعمى بسبب عبوره وادي سقر ثم ارتطم بالقطار الصاعد إلى بغداد وتناثر في الأرض كشهاب محترق هابط "، والعمى مثلما هو معروف رمز الإخصاء كما في أوديب .

في هذه النهاية المأساوية ينتصر الروائي للمرأة بإسقاطه للخرافة ، حين تعطل مفعول السحر ، ثم ترتبط بلقيس بمعلم لتمضي معه إلى المدينة في القطار، بينما سعود تطارده حجارة الاطفال ، مع مروق شهاب هبط متشظياً مثل كتلة من نار حيث الظلمات السحيقة .

انها ترجم الشياطين يا زوجتي العزيزة . ( هكذا قال المعلم لبلقيس وهي تقص عليه قصة سعود كاملة ، لتقطع الوقت والطريق ) .

النزعة الإيمانية والطريق إلى الله

تغلب على الروايتين النزعة الإيمانية جنباً إلى جنب مع أجواء السحر والطقوس السحرية ، فضلاً عن التباين الديني والثقافي والحضاري بين شخصيتي " سانتياغو " في الخيميائي ، و" سعود " في بلقيس والهدهد ، وكذلك الاختلاف بين فكرة العودة من الأهرامات إلى الكنيسة التي انطلق منها الراعي تحقيقاً لحلم تكرر لمرتين ، وبين نبوءة ضاربة الودع البدوية التي قادت سعود إلى نهاية مأساوية متناثراً بين عجلات القطار في أشهر الروايات عن مصيره ، ففي ثنايا رواية " الخيميائي " نزعة ايمانية مسيحية اسلامية يمكن عدها محاولة للالتقاء الحضاري بين أبناء الديانتين من خلال قصة الحب التي جمعت بين الراعي الاسباني الاندلسي المسيحي سانتياغو، وفاطمة المسلمة الصحراوية إبنة واحة الفيوم المصرية ، وهذه القصة هي المعادل الموضوعي لقصة هيام سعود ببلقيس إبنة البادية والصحراء في " بلقيس والهدهد " فكلا الروايتين تقومان على فكرة الحب التي تتصاعد لتصبح هي الفكرة الأسمى فيهما ، حين أدرك سانتياغو أن " فاطمة أكثر أهمية من الكنز " الذي قاده اليه حلمه من مدينة طريفا الى اهرامات مصر ، وحين أدرك سعود ان " غايته هي بلقيس التي تلوح له كالسراب ، لكنه سراب مميت . وتتجسد النزعة الإيمانية بوضوح في نصوص يقتبسها باولو كويلو من الكتاب المقدس والمصحف الشريف ، كما في النص الذي سبق ذكره المأخوذ عن انجيل لوقا ، وكذلك اقتباسه آية قرآنية من سورة سبأ في مجريات الرواية : " قل إنَّ ربي يبْسُطُ الرزقَ لمن يشاءُ من عبادِهِ ويَقْدِرُ له ... " واشارته لقصة يوسف وفرعون مثلما وردت في القرآن الكريم ، ويلجأ خيون أيضاً إلى لغة قرآنية واضحة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في مختلف مقاطع روايته ، مقتبساً نصوصاً من بعض الآيات ، أو جملاً متأثرة بلغتها واسلوبها التعبيري بالتعبيرات القرآنية ، وفي روايته يستخدم كويلو " لتكن مشيئة الرب " الانجيلية ، أو " كل شيء مكتوب " ، يقابلها عند خيون " إلا أن يشاء الله رب العالمين " القرآنية ، أو " ليفعل الله ما يريد " ، وفي الخيميائي يتوغل سانتياغو في روح العالم : " ورأى ان روح العالم هو في روح الله ، ان روح الله فيه " ، وفي بلقيس والهدهد يسأل سعود الشيخ عن كيفية هروبه من نفسه إلى الله ، فيجيبه : " لا تهرب من نفسك .. بل قدها إلى الله عن قناعة وثبات ودعها تسبح في ملكوته وتمتلئ بفيض نوره " ، ويهتم باولو بالإشارات التي يرسلها الرب للإنسان : " إن كلَّ شيء في الحياة إشارة ، والكون مخلوق بلغةٍ يفهمها جميع البشر ، ولكن البشر نسَوها " ، وفي " بلقيس والهدهد " توجد مثل هذه الإشارات ، لكنها إشارات غريبة ترسمها بدوية : " ولا تفهمها إلا امرأة ". أما الطريق إلى الله فهو واضح ، فالعالم في " الخيميائي " ليس سوى الجزء المرئي من الله : و " إن الإنسان السعيد هو من يحمل الله في أعماقه " ، وفي رواية خيون : " يبدو الله في هذه الفيافي المقفرة واضحاً جلياً كأن العين تراه " . وقد يكون من المفيد هنا الاشارة إلى أن كويلو قد أصدر روايته هذه وقد تجاوز الأربعين عاماً من عمره بقليل، وكذلك كان خيون حين أصدر روايته " بلقيس والهدهد " ، وقد تجاوز الأربعين بسنة او سنتين .

في أغلب روايات باولو كويلو المترجمة إلى اللغة العربية ، ومنها " الخيميائي " لا نجد حداً فاصلاً بين المتن السردي للرواية ، فلا فصول ، ولا عناوين ، ولا حتى أرقام ، إنما انتقالات في المكان والزمان والأحداث والشخصيات ، في حين يصوغ خيون روايته على شكل مقاطع سردية ، تصل إلى عشرين مقطعاً ، لكل مقطع عنوان : النبوءة / الخيانة /الهزيمة / المفازة / السعدان / المارد / قلب الظلام / السعلاة / الهدهد / الرتم / الثعبان / حكاية الذئب / الطريق إلى الله / الطريق إلى سقر / خطوات الشيطان / بلقيس والهدهد / الشهب ، ثم يلحق هذه المقاطع بأخرى تتضمن : حقائق وأحاديث موضوعة عن سعود السعدان / اعترافاته الشخصية كما رواها الأصدقاء / ما رواه بعض المارة . وتمتاز الروايتين معاً بالتكثيف الشديد ، فمجموع صفحاتهما معاً لا يزيد في الاحوال كلها عن 300 صفحة من القطع الوسط ، وإن كان التكثيف في رواية " بلقيس والهدهد " مسوغ بسبب مساحة أحداث الرواية : مدينة السماوة / مدينة بغداد / بادية السماوة ، أطراف الصحراء ، في حين تمتد هذه المساحة في " الخيميائي " من : جنوب اسبانيا / مضيق جبل طارق / سبتة / المغرب / الصحراء الأفريقية الشاسعة / واحة الفيوم / الأهرامات في مصر .

يُعرف عن باولو كويلو أن الهاجس المشترك في جميع أعماله الروائية ، ومنها " الخيميائي " هو " الحب " وقد قال يوماً مؤكداً ذلك بأن الذي غير حياته هو الحب وليس الوقت والقراءة ، لذلك يكاد هذا الهاجس يخيم على مجمل قصصه ورواياته التي تتمحور حول هذه العاطفة الانسانية بما فيها من تضحية ووفاء ، وغيرة قاتلة ، وغدر وخيانة ، ومها روايات " الزانية " و " الزهير " و " الشيطان والآنسة بريم " و " فيرونيكا تقرر أن تموت " على سبيل المثال لا الحصر ، فمعرفة الحب على الأرض وفق كويلو هي التي تقودنا إلى معرفة السلام في السماء ، ومن دون الحب يصبح الإنسان من دون قيمة حقيقية ، وتنطوي نظرته للحب أحياناً على نزعة صوفية كالقول بأن الحب يتجلى أحياناً في غياب الحبيب ، أكثر مما يتجلى في حضوره ، وقد رأينا كيف أن فاطمة اصبحت هي الغاية للباحث عن الكنز الراعي سانتياغو .

وفي مجمل القصص والأعمال الروائية لعلي خيون ، لا يغيب الحب أبداً ، حتى أن بعض رواياته تحمل عنوان الحب مباشرة ، كما في روايات " في مديح الحب الأول " و " سلوة العشاق " و " رماد الحب " التي أشادت بنفسها الإنساني الناقدة الجزائرية بهاء بن نوار ، كما قال عنها الكاتب والشاعر اللبناني شوقي بزيع بأن الحب في هذه الرواية أقرب إلى المرض أو اللعنة التي تورث الجنون ، فيما قال عنها الناقد الاردني يوسف ضمرة بأنها قلبت هاملت رأساً على عقب ! . وقد حظيت عموم روايات خيون باهتمام عدد من النقاد العرب والعراقيين الذين جمع كتاباتهم وعلق عليها، الناقد والكاتب العراقي الكبير ماجد صالح السامرائي في كتاب تحت عنوان " التقنية الروائية والتأويل المعرفي " صدر عن دار الفرقد بدمشق عام 2009 أكد فيه بأن أكثر ما يشغل الروائي علي خيون : " هو أنه كما يرى العالم على حقيقته ، يعمل ، من جانبه ، على أن يريه لقارئه على الحقيقة ذاتها التي رآه بها ، من دون اخضاعه لأية أحكام مسبقة أو مواقف قبلية ... من هنا جاء إصغاء النقد لما يكتب " ، ومن الواضح أن السامرائي الذي تابع خيون وكتب عن رواياته الكثير من المقالات ، يشير إلى جرأة الروائي في تناول تفاصيل الحياة اليومية ، وبالأخص في موضوعة الحب والحرب ، وتداخل العواطف الانسانية في الأزمان الصعبة ، وطبيعة السلوك البشري المتقلب ، وما يمكن أن يورثه الحب من تداعيات نفسية وسلوكية واجتماعية على شخوص رواياته وحياتهم ومصائرهم المختلفة .

ما يمكن قوله أخيراً ، أن المساحة التي تحرك بها الروائي البرازيلي باولو كويلو في روايته " الخيميائي " كانت أوسع كثيراً على المدى الجغرافي والحضاري ، مما منحه حرية كافية للتنقل والتنوع والامتزاج الحضاري بين الغرب والشرق ، والماء والصحراء ، والمدن والقرى ، والمفازات والواحات ، والمسيحية والإسلام . فيما تحرك علي خيون في روايته " بلقيس والهدهد " على مساحة أقل سعة ، وإن كانت تمتد من بغداد إلى السماوة المدينة والبادية والصحراء ، وبذلك كانت الرواية أكثر محلية في مقابل عالمية " الخيميائي " ، والأمر ينطبق أيضاً على المساحة التاريخية ، فأجواء رواية كويلو تبدو كأنها في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ، وهي حقبة تاريخية زاخرة بالإثارة والتشويق في مختلف جوانب الحياة ، سيما في حياة العرب المسلمين على امتداد الصحراء الأفريقية الشاسعة التي كانت تغري الرحالة الغربيين الباحثين عن الكنوز والحظوظ ، ومعهم أيضاً أصحاب الاطماع الاستعمارية الباحثين عن النفوذ والثروات والأراضي البِكر ، والمجتمعات البِكر . في حين نجد أن أجواء رواية " بلقيس والهدهد " محدودة بحقبة تاريخية لا يتعدى زمنها منتصف الخمسينيات في العراق ، وهي حقبة زمنية صرف إزاء حقبة " الخيميائي " التاريخية . وفي تقديرنا، لو ان بلقيس والهدهد، صدرت عن دار نشر واسعة الانتشار، لترجمت وأخذت صدى لايقل عن أصداء الرواية الأجنبية، لكنها وزعت في نطاق العراق في طبعتها الأولى وبعدد محدود بسبب شحة الورق في ظل ظروف الحصار، وعزلة العراق دوليا انذاك.

ملاحظة : مع المقال 4 صور

باولو كويلو

علي خيون

غلاف الخيميائي

غلاف بلقيس والهدهد

 

القراءات 1078 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78630

حاليا يوجد 14 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions