بلادنا تحترق والمثقف يتفرج
المؤلف : د . طه جزاع
بمرور الذكرى الخامسة لرحيله في مثل هذه الأيام من شهر آب 2017 عن 61 عاماً، يبقى ناظم السعود حياً في ذاكرة الصحافة الأدبية، وفي عموم المشهد الثقافي العراقي، وتبقى أزمة حياته وبساطته وعوزه وعزلته في مرضه الذي لم يمهله طويلاً، عناصر مؤثرة في صناعة كاريزما شخصيته الاستثنائية، إلى جانب ما اتسم به قلمه الناقد الساخر من صراحة موجعة تجاه مختلف القضايا الأدبية والثقافية .
عَكفَ ناظم السعود في أيام مرضه واصابته بجلطات متكررة انتهت به إلى شلل نصفي، على جمع مقالاته وفي نيته إصدارها بكتاب نقدي اختار له عنواناً مثيراً على طريقته الصادمة « لا صحافة أدبية في العراق! « يطل منه على القراء، بلا كلمات مبهمة أو مصطلحات غامضة أو أساليب معقدة، ليقدم شهادة صريحة، ويشخص بدقة مرض الثقافة وكبوة المثقف . ومن المفارقات أن صديقه المقرب الناقد حسين سرمك حسن الذي لحقه بعد ثلاث سنوات وبضعة أشهر، كان قد وصف السعود بشهيد الثقافة العراقية، وكتب في حينها مؤبناً صديقه قائلاً : «هو شهيد بكل معاني كلمة الشهادة ويجب أن يُعامل على هذا الأساس، فناظم قدّم حياته لهذه الثقافة بلا مقابل. وقبلها تحمّل الآلام الجسام والعذابات الهائلة في سبيل الكلمة لأكثر من أربعين عاماً، ومات منحنياً على جهاز الكومبيوتر يكتب بصعوبة كما اعتاد عن ثقافة لم تقدّم له سوى النكران والإهمال ليعيش منبوذاً في أطراف محافظة كربلاء مشلولا ممدداّ في سريره لا يقوى على الحركة «، ومن شدة تأثره بالحياة المأساوية لناظم السعود وما فيها من مفارقات مدهشة ومصادفات سيئة سلبت منه فرصاً متعاقبة، رأى الصحفي الرائد زيد الحلي أنها تصلح فكرة لعمل درامي، ثم يكشف عن حكاية ظلت غائبة عن بدايات السعود الصحفية، يوم كلف الحلي زميلة في الصفحة التي يشرف عليها بجريدة الثورة لحضور عرض فيلم الملك غازي : «وفي اليوم التالي جاءت الزميلة بموضوع جميل جداً، في فحواه وطريقة كتابته وأسلوب عرضه، وقبل أن أدفع به إلى النشر، اعتراني فرح مهني كبير.. فأمامي صحفية كبيرة لم أكن أنتبهتُ اليها»، ويمضي الحلي في الحكاية وكيف اكتشف لاحقاً انها لم تكتب شيئاً مما أعجبه، فقد كتبه لها أحد مصححي الجريدة الجدد، كانت المحررة أصطحبته معها لمشاهدة الفيلم فكتب لها الموضوع , وكان هذا المصحح ناظم السعود! .
تعرفتُ على ناظم منتصف التسعينيات، وأحببت فيه قلمه الجريء واسلوبه الممتع، وصدقه مع نفسه ومع الآخرين، كان من قدره أن يحصد الخيبات تلو الخيبات، بعد أن فشلت جميع الأنظمة والحكومات، بكل وزاراتها ومؤسساتها وثرواتها وخزائنها ومواردها ودنانيرها ودولاراتها في أن تمنحه سقفاً في العاصمة يحمي أطفاله ويقيهم من التشرد، فضلاً عن تكالب الأمراض عليه التي لم تمنعه من التشبث بالحياة بكبرياء تليق بالمثقفين العصاميين. الفقر عنده موقف ورأي وطريقة ومنهج وفلسفة ، وقلم مبدع، لغته سليمة راقية وعباراته رشيقة جميلة ممتعة واستدراكاته – وهي سمة من سمات مقالاته – قوية مؤثرة، التقاطاته ذكية عميقة معبرة، أما روحه في الكتابة فهي روح ناقدة ساخرة صريحة، ولولا لوم اللائمين، وعيون وألسنة المتطفلين، ونزعة الكبرياء في نفسه المتواضعة، للبس ناظم الصوف شاهداً على زهده، ومشي حافياً مثل الدراويش والعشاق المجانين، يحاجج المثقفين ويجادل الأدباء ويحاور العقلاء ويلاطف المجانين ويوزع السخرية والدعابات الثقيلة والإحزان بين المارة بالعدل والقسطاس، فالفقر عنده موهبة مثل الكتابة، بل قل انه من أندر المواهب.
وقبل ستة أشهر من رحيله، بعث لي ناظم رسالة من معتزله بقضاء الهندية في كربلاء مع رجاء ورغبة بنشر مقالاته في أحدى الصحف لأنه يحس برغبة «هائجة للكتابة» على حد تعبيره : « لعلها الوصايا والتنبيهات، وتدوين بعض الكلمات اعتماداً على الذاكرة وما استحلبته من العقود السابقات ولا يصح أن أجّر كل هذه معي إلى القبر» .
لكنه جرّ تلك الوصايا معه إلى القبر، بعد أن كتب بيد مشلولة وقلب مكلوم صرخته الأخيرة : بلادنا تحترق والمثقف العراقي يتفرج .
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.