الشرقاوي وملحمته الشعرية
المؤلف : د . طه جزاع
رغم مضي أكثر من نصف قرن على نشر عبد الرحمن الشرقاوي لمسرحيته الشعرية التي صدرت في جزئين متتابعين هما « الحسين ثائراً « و « الحسين شهيداً «، تبقى هذه الملحمة واحدة من أهم الأعمال الملهمة التي عُرف بها هذا المفكر الإسلامي طوال مسيرته الابداعية، مع روايته الشهيرة « الأرض» التي كانت من بواكير أعماله، ونالت شهرتها بعد تحويلها إلى فيلم سينمائي على يد المخرج يوسف شاهين العام 1969، وهو العام نفسه الذي كان قد انتهى فيه من كتابة ملحمته الشعرية عن مسيرة ومراحل ثورة الإمام الحسين «ع» واستشهاده ابتداءً من المنظر الأول الذي يبدأ ليلاً عند طريق في المدينة المنورة، حيث يبدو من بعيد الحرم النبوي، والليل الذي يفيض بالسكينة قبل أن ترتفع النداءات ويدخل رجال بالمشاعل، وانتهاءّ بالمنظر المأساوي الرابع من الجزء الثاني حيث « الليل على كربلاء.. التيه والعراء والتلال الجرداء» .ويذهب البعض إلى أن هذا العمل الشعري الخالد الذي أنجزه الشرقاوي بعد أقل من عامين على نكسة الخامس من حزيران العام 1967، ما هو إلّا صرخة احتجاج مدوية على تلك الهزيمة المريعة في حياة العرب المعاصرة، ومحاولة لاستنهاض روح الامة من جديد باستلهام حدث مأساوي تتجلى فيه أبلغ صور الشهادة والتضحية والفداء دفاعاً عن مبادئ الحق والعدالة ومقاومة الظلم، وعدم الرضوخ لمنطق القوة والطغيان، ولو كان ثمن ذلك وبيلاً بالدم الطهور للحسين وأصحابه وآل بيته المسفوك ظلماً وغدراً في واقعة الطف على أرض كربلاء يوم العاشر من محرم سنة 61 هجرية، 680 ميلادية .بعد المنظر الأول من « الحسين ثائراً « تتوالى الأحداث وتتصاعد في مساحة جغرافية واسعة لم تكتمل إلّا في المنظر الثالث عشر، بداية من ذلك الطريق في المدينة، ثم قصر الوليد بن عتبة ومسجد الرسول» ص» وقبره، ثم شارع ضيق مظلم والحسين يحمل جوالات « أكياس كبيرة لحمل الطعام» يضع بعضها على أبواب بيوت المساكين والأيتام والأرامل ليغيث العائل والمعتر، ويجلس ليستريح، وتتوالى المناظر: أمام قبر الرسول» ص» والناس ينصرفون بعد الصلاة، الحسين واقف على القبر في خشوع ، والجو يغمره جلال خارق بعد صلاة الفجر، وقاعة في بيت الحسين بمكة، الجارية ريحانة تنسق الرياحين في آنية وسكينة بنت الحسين إلى جوارها تساعدها. المكان يغمره ضوء النهار، وبه شرفة تطل على الكعبة. ثم تنتقل المناظر المسرحية إلى الكوفة بعد العصر إذ يجلس مسلم بن عقيل في ساحة بيت المختار الثقفي تحت شجرة وارفة، وتعود في منظر لاحق إلى بيت الحسين بمكة حيث الحسين ومحمد بن جعفر وزينب ثم إلى دار هانئ بن عروة ومعه مسلم بن عقيل وزيد بن الأرقم، لتنتقل بعدها إلى الصحراء في الطريق إلى العراق والوهج الشديد يعلن عن قيظ لا يُحتمل، وأشجار وظلال ونبع تتناثر هنا وهناك، « الحسين وسعيد بن بشر وبعض رجال الحسين وفتيانه «، وهناك حيث الكوفة « ساحة واسعة أمام قصر ابن زياد امير الكوفة والناس يملأون الساحة بالسيوف والعصي والسهام، بعضهم يقف على مرتفعات أو جذوع نخيل. وكأنهم يحاصرون القصر تحت ليل تضيئه بعض مشاعل يحملها رجال منهم، وفي زقاق ضيق بالكوفة، مسلم بن عقيل يمشي مجهداً يتلفت في حذر وقد اتسخت ثيابه، ثم يتهاوى مستنداً إلى جدار تحت ظلام مطبق». وفي قاعة قصر ابن زياد بالكوفة تناثرت مقاعد جلس عليها أسد وهو شيخ حجازي يعيش في الكوفة، وزيد بن أرقم وعمر بن سعد والحر الرياحي وشمر وهو رجل ملثم، ثم المنظر الثالث عشر والأخير على شاطئ الفرات في الطريق إلى الكوفة حيث الحسين وبعض صحبه تحت ظلال تلقي الخضرة على المكان وتحجب ضوء الشمس، وقد انضم إلى الحسين عدد من رجال الكوفة على رأسهم برير الشيخ العراقي، وعلى مرتفع خيمة للنساء.بهذا المنظر الذي ينتهي بقول على لسان زينب « ذهبوا وفسد الزمان ولم يعد في الأرض إلا بعض أشباه الرجال «، يبدأ الجزء الثاني من ملحمة الشرقاوي الشعرية « الحسين شهيداً « وعلى خلاف الجزء الأول المؤلف من ثلاثة عشر منظراً، فإن هذا الجزء يقتصر على ست مناظر تبدأ في «بادية بجنوب العراق على مقربة من كربلاء تتناثر فيها التلال، الحسين ورجاله وفتيانه يتفرقون في المكان على المرتفعات والمنخفضات « ثم « في كربلاء، صحراء جرداء قاسية، وعراء كامل تتوهج فيه الشمس في قرص أحمر وهي تهبط للغروب وترسل على كل أنحاء المكان لوناً قانياً « ويمر يوم جديد في كربلاء « والشمس تتوهج على الصحراء والتلال والرمال تتوقد وفي الجو شيء كالدخان من عنف الحرارة « و « الليل على كربلاء، التيه والعراء والتلال الجرداء، الحسين وحده يذرع المكان الموحش تحت الليل، والقمر يضئ «. في هذا المنظر الرابع من « الحسين شهيدا» تبلغ المأساة ذروتها باستشهاد حفيد رسول الله وريحانته، لينزف ضمير الأمة إلى الأبد حزناً ولوعة وندماً وندباً وعويلاً وبكاءً لا ينقطع. أما المنظرين الباقيين من هذه الملحمة الشعرية الحسينية فالخامس في قصر يزيد بن معاوية بدمشق، بكل مظاهر الأبهة والغنى الفاحش، والمنظر الأخير بعد نحو خمسة أعوام على وقوع المأساة « صحراء محرقة تتوهج فيها الشمس الغاربة كتلك الصحراء التي عطش فيها واستشهد الحسين بكربلاء، يزيد – وقد أصبح أكثر شحوباً- يبحث في المكان وينتقل بين منخفضاته ومرتفعاته في حيرة وفزع يتزايدان». ويبقى صوت الحسين في ختام الملحمة حياً خالداً لا يموتً، يذَّكر أتباعه وأصحابه وكل أصحاب الحق بالقيم التي استشهد من أجلها ومن أجل الإصلاح في أمة جده، وبعدم سفك دماء الآخرين، بل « بانتشال الحق من ظفر الضلال «.أنهى الشرقاوي كتابة مسرحيتيه في القاهرة شهر ذو الحجة 1388 فبراير سنة 1969، وتوفي في 1987 عن 66 عاماً، وبقيت هذه الملحمة الشعرية على رأس أعماله الخالدة التي يتجدد ذكرها على الدوام، ليس في العاشر من محرم، ولا في العشرين من صفر اربعينية استشهاد الامام الحسين «ع «، إنما في كل زمان ومكان حين يطغى الطغاة، ويفسد الحكام، ويسود الضلال، وتتوجب الثورة على الظلم والظالمين .
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.