"انقضت العقبان على شرفات القصر الرئاسي خلال نهاية الاسبوع، فحطمت شباك النوافذ المعدنية بضربات مناقيرها، وحركت الزمن الراكد في الداخل برفيف اجنحتها، ومع بزوغ شمس يوم الاثنين، استيقظت المدينة من سبات قرون عديدة على نسمة رقيقة ودافئة، نسمة ميتٍ عظيم، ورفعةٍ متعـــفنة!".
بتلك العبارات، يفتتح الكاتب العظيم غابرييل غارسيا ماركيز رائعته الخالدة (خريف البطريرك)، ليعلن من خلالها وفاة احد دكتاتوريي العالم، بعد زمن طويل من جثومه على صدر شعبه حاكما مطلقا، لكن، لماذا يوصَف موت الدكتاتور دائما بالحدث الغريب الذي لا يجب ان يحدث؟!
كاريزما_الطغاة ..
من يصنعها؟ وكيف؟!
كاريزما الطغاة من يصنعها و كيف؟
تسيطر على اذهان شعوبهم تلك الصور التي تكررت على مرآهم كثيرا، حتى اصبحت جزءا من حياتهم اليومية، وهم ماثلون في الاذهان اما بنظراتهم الخطيرة، او اصابعهم المتوعدة، او تحاياهم الغريبة، او حتى شواربهم ولحاياهم المميزة، ويحرص اولئلك دائما، منذ اولى لحظات تسلمهم الحكم بدباباتهم التي تخترق القصور لتعلن البيان الاول، يحرصون على ايجاد شخصية لانفسهم كحكام مطلقين لا يقهرون، وذلك كله بواسطة جهاز متكامل من التصرفات المحسوبة والذكية، والتي توقع عقول شعوبهم بفخ استلاب البابهم وخلق مخيلة الزعيم الذي لا يقهر في اذهانهم.
تلك الصورة الخالدة في اذهان تلك الشعوب لاولئك الزعماء، لم تخلق بالصدفة ابدا، بل بعدة تصرفات وعدسات كاميرا وخطابات مقرؤة عدة مرات ومنقحة عشرات المرات قبل ان يتم القائها، بل حتى بتمارين مطولة للغة الجسد وايماءات الكلام وتعابير الوجه وتعرجات انطلاق الصوت ..
كيف يخلق هؤلاء الكاريزما لانفسهم؟
اولا: من يتابع فيديوهات طواغيت القرن العشرين وما بعده، لابد ان يكون قد تنبه الى وجود عناصر قليلة تحيط بالزعيم، وهناك فرد واحد يكون الاقرب للزعيم على الاطلاق، هذا الفرد وعادة مايكون مساعده او سكرتيره، يتصرف امام الملا و الكاميرات تصرفا محسوبا بمهارة، فهو يسحب عادة الكرسي له عندما يجلس، ويبعده عندما ينهض، ويقرب اذانه بسرعة البرق للزعيم عندما يريد ان يطلب شيئا، ويقف قريبا منه دائما وعيناه تتقلبان حول الزعيم هنا وهناك، وفي العادة، لايكون هذا الشخص ومن معه من العاملين البسطاء او العناصر الاقل شأنا، بل هو على رتبة عالية ومنصب رفيع. يعكس ذلك صورة في الاذهان: اقرب مقربو الزعيم يخشونه ويبحثون عن رضاه، ويسعون الى تنفيذ اوامره والابتعاد المطلق عن ازعاجه او اغضابه باي شكل من الاشكال، اقرب مقربوه يخشاه، فكم من الرهبة يحمل هذا الانسان الاسطوري؟!
ثانيا: يستخدم الزعماء الطغاة في العادة الاطفال لتمرير صورتهم النقية الملائكية الرائعة الى اذهان الشعب، فهم يستقبلون الاطفال الذين يرتدون غالبا الملابس البيض في قصورهم او يزوروهم في مدارسهم، يقبلوهم وينحنون اليهم، ويبكون احيانا عندما يستقبلهم هؤلاء الاطفال بالورد والاناشيد. يعكس ذلك، صورة الزعيم العاشق لشعبه، والذي لا يستنكف ابدا النزول الى الاطفال ومخالطتهم، فهم احباؤه الذين يقاتل من اجل مستقبل بلادهم، ليقشع بذلك فكرة السجون التي ملاها بذويهم سجنا وتعذيبا.
ثالثا: ينتقي الطواغيت عادةً وسما خاصا لكل منهم، فالسيكار الكوبي، الرتب العالية، الزي العسكري المميز، نوع المسدس الفريد الذي يحملوه، طريقة التحية العسكرية المميزة، طريقة حلاقة الشارب او اللحية، حتى طريقة الضحك والقاء الخطب، يجب ان تكون فريدة للغاية، لا يشاركها احد سواهم، فهم بذلك يطبقون اهم قواعد السطوة: "اخلق مشاهد آسرة لقطف القلوب".. اي عملية تكرار لاي زعيم اخر لذلك الوسم سيكون عليه نقمة، فمن سيراه سيتذكر مباشرة ان ذلك الوسم خاص بالزعيم الاسطوري الفلاني، لكثرة ما ادخل ذلك الوسم الى عقول شعبه والشعوب الاخرى، فتحية هتلر خاصة به، وبرنو صدام خاص به، وشوارب ستالين ووقفة لينين وسيكار كاسترو، كلها خاصة بهم، ولا يمكن ان تنسخ لاي احد غيرهم دون ان تذكر بهم.
يخلق ذلك في الاذهان: ان هؤلاء مميزون عن باقي الخلق، لقد ولدوا وسيكارهم في افواههم، او انهم ولدوا بزيهم العسكري الفريد، او خرجوا من بطون امهاتهم وهم يؤدون تحية خاصة، وبالتالي فهم نزلوا الى الارض لتأدية مهمة عظيمة، يجب الايمان بها.
رابعا: البروباغاندا الخاصة.
يعمد الطغاة على وجود جهاز اعلامي يدار من قبلهم فقط دون السماح لاي وكالة اخرى بتغطية تحركاتهم، فلا يجب ان تصور اية كاميرا غريبة عثرة الزعيم او تلكؤه او خطأه في نطق عبارة معينة او اي حركة تهز صورته بذهن شعبه، فلا تجد الا ماندر، ان تعثر اي طاغية امام وسائل الاعلام او اخطأ في حركة معينة، ذلك ان جهاز اعلامه سيقتطع تلك اللقطة فورا، وفي الوقت ذاته، تصور كاميرات الدعاية الحكومية الزعيم دائما بلقطات اخذت بعناية، صور له وهو ينظر بشراسة الى عدسة الكاميرا، او صور من الاسفل ليبدو شامخا عاليا بذقنٍ مرفوع، او لقطات له وهو يعبر النهر سابحا، او وهو يتفقد انتاج مصانعه، او يقف بشموخ مستعرضا جيشه. يوقظ ذلك في الاذهان، ان الزعيم عبارة عن كائن اسطوري لا يقهر، اكبر من الجميع، اكثر طولا، واشد شكيمة.
خامسا: في تناقض مدروس، يعمد الزعيم للظهور بطريقتين متناقضتين في الوقت ذاته على وسائل الاعلام، الاولى: البسيط الذي يساعد العمال ويحمل معهم التراب والبلاطات، ويحصد مع الفلاحين وياكل مع الجنود، صورة بسيطة للغاية، وفي الوقت نفسه، يظهر بقصوره العملاقة وسياراته الفارهة وموكبه المهيب وحماياته الفتاكة، صورتان تعكسان رسالة في غاية الذكاء .. فالزعيم هو بطل السلم والحرب، قادر على البناء وقادر على فرض هيبة الدولة في ذات الوقت، حبيب الشعب بكل مكوناته، ليس هناك من هو اغنى منه واقوى ساعدا، وفي الوقت نفسه، فقلبه البسيط الطيب لن ينسى البسطاء من ابناء شعبه الحبيب، بل انه يتفقدهم دوما ويسعى معهم، ولك ان تتخيل دهاء اجهزته الاعلامية.
سادسا: لا يمكن على الاطلاق ان يظهر الزعيم ضعيفا او مريضا، وفي الحالات الميؤوس منها فان خبر مرضه يعلن دون صورته وهو بايامه الاخيرة، وفي حال اشارت وكالات انباء اجنبية الى اخبار عن مرضه او اقعاده فانه سيسارع الى الظهور وهو يتفقد شعبه بهمة عالية او يقف على منصة تحية جيشه لساعات او حتى يعبر النهر سابحا، الزعيم لا يموت، اما في حالات تاثر البلاد باختفاءه الطويل فانه سيسارع الى تعيين احد مساعديه الثقاة لادارتها ريثما يوافيه الاجل، وفي النهاية، فهو لايزال هناك حتى بعد مماته.
سابعا: يعمد الطغاة الى تكبير حجم اعدائهم واختلاق المواجهات، فتسمع من هنا وهناك: الامبريالية، العنصرية، الصهيونية العالمية، مصيرنا المشترك، دماؤنا الواحدة، قوافل الشهداء على يد الاعداء .. الخ .. كل هذا يولد الاحساس بان زوال هذا الزعيم سيمكن تلك القوة الغاشمة من تدمير بلادنا، بل احتلالها واستعبادنا وجرنا بالسلاسل في شوارعنا، الزعيم هو المنقذ، وشارباه هما خيمتنا الامنة!
ثامنا واخيرا: صور الزعيم في الصحف، في النصب التذكارية، في التماثيل، على التلفاز، في العملة الوطنية، في المدارس والجامعات، خطاباته وكلماته الخالدة، لا يجب ان تتوقف في توفير الدفق المستمر في ذهن الشعب، بان الزعيم خلق من اجلكم، وجاء من السماء برسالة تاريخية لدحر اعدائكم، فبزواله ستزولون .. والى الابد . كل هذا، عدا الالقاب والرتب و الاوسمة العديدة و الانواط والخطابات والاناشيد التي تتغنى بحبه وتنسب له كل خير في البلاد ولاعداءه كل شر اصابها ..
اخيرا، ينهي ماركيز روايته قائلا:
".... الصفير المكتوم المنبعث من فتق ميتٍ قديم، حصده عكاز الموت بضربة فورية، فانطلق محلقا في الجلبة المدلهمّة، جلبة اخر اوراق خريفه الصقيعية، باتجاه مملكة الظلام، مملكة النسيان الحقيقي، متشبثا بجلباب الموت الرث، غريبا عن هتافات الحشود المهتاجة التي كانت تهرع الى الموت جذلى، منشدةً موته باناشيد الحبور، غريبا الى الابد عن موسيقى معزوفات التحرر، عن اسهم الفرح النارية، وعن اجراس البهجة التي زفت للملأ البشرى ان زمن الابدية الهائل.. كان اخيرا ..
قد انتهى!" .
تم نشرها في -
رسلي المالكي
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.