مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

جمهورية أفلاطون ليست فاضلة

قيم هذه المقالة
(1 Vote)
Print Friendly, PDF & Email
الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع
 

لا أرغب ولا أتمنى أن يتسبب عنوان هذا المقال بصدمة لمن كان يؤمن متوهماً أن جمهورية أفلاطون هي مثال للمدينة الفاضلة التي تسودها مفاهيم الحق والخير والجمال، أو هي يوتوبيا الإنسان الحالم بالعدالة والمساواة، والبعيدة عن الشرور وأصناف المظالم وأنواع الفساد .ولطالما سُئلت في مناسبات عديدة، عن جمهورية أفلاطون كمدينة فاضلة، وكنتُ أتعمد تقديم إجابة فضفاضة سيما مع أولئك الذين لم يقرأوا محاورة السياسة أو ما عُرفت شعبياً باسم جمهورية أفلاطون، لأن محاولة افهامهم تكون في غاية الصعوبة، لكنها سهلة للغاية مع الذين قرأوا أفلاطون بعناية، وأدركوا من خلال اطلاعهم العميق على تلك المحاورة، بأن أفلاطون قدم في جمهوريته مشروع انقاذ لمدينة أو دولة مثل أثينا الديمقراطية بعد أن ذاقت طعم الهزيمة على يد إسبرطة ذات النظام العسكري القوي الذي مكنها من كسب حرب البلوبونيز ضد غريمتها التقليدية . وهذه الجمهورية ليست فاضلة بمعنى الفضائل الإنسانية المعروفة، إنما هي مثالية، بمعنى المشروع المثالي الذي يمكن لأثينا لو طبقته، أن تتجاوز آثار الهزيمة وتعيد ثقتها بنفسها، وهذا المشروع الإصلاحي المثالي، يقوم على التشبه بالنظام الإسبرطي، لأن المهزوم يحاول التشبه بعدوه المنتصر، ويتبع خطواته في بناء دولته التي استطاعت أن تبلغ من القوة ما مكنها من دحر عدوها .جمهورية أفلاطون، وبفعل ضغط هزيمة أثينا ونكستها، دعت إلى شيوعية الأطفال والنساء، أي الغاء نظام الأسرة الطبيعي، وبدلاً عن الأسرة تقوم الدولة بتنظيم زيجات جماعية وتختار أشجع الفرسان لتلقيح أجمل الحسان، أما مواليد هؤلاء فإن الدولة تشرف على حضانتهم وتربيتهم وتنشئتهم في ملاجيء عامة وتدريبهم في المعسكرات تدريباً  قاسياً، فلا والد أو والدة يعرفان مولودهما، ولا مولود يعرف والديه، وتُعامل الأناث معاملة الذكور، فلا تعفى الفتاة من التدريبات القاسية لتقوية العضلات وخوض الصعاب والقتال في الحروب والمنازلات حالها حال الرجال تماماً، أما الذين يولدون وهم مرضى أو معاقين فينبغي التخلص منهم بلا رحمة، مثلما يتم التخلص من العجزة والمُقعدين. كذلك يقر أفلاطون في جمهوريته « الفاضلة جداً» نظام العبودية والعبيد الذين يمتلكهم السادة، والذين يحسبون على عدد الرؤوس مثلما تحسب رؤوس المواشي والخيول التي يمتلكونها، كما يقر النظام الطبقي الذي يقوم على تقسيم المجتمع إلى طبقات متفاوتة من الحكام والجند والصناع وأصحاب المهن والحرف والمزارعين، أما في مسألة أنظمة الحكم فإن أفلاطون هو عدو النظام الديمقراطي بلا منازع . والأعجب من ذلك كله هو التوهم بما يسمى الحب الأفلاطوني الذي يظنونه حباً عذرياً لا جسدياً، وبالطبع لا اقصد هنا حب المثال وعشقه والتعلق بالجمال العقلي المجرد عن الأهواء، فهذا أمر يتسق مع الفكر المثالي لفيلسوف أكاديمية أثينا العظيم، لكن هناك من لا يفطن إلى أن أفلاطون كان يتحدث عن عشق سقراط لتلميذه الجميل الوسيم القبيادس، وهو ما يسمى اليوم بالمثلية الجنسية التي تعافها وتشمئز منها النفوس البشرية السوية.لا أحد بمقدوره أن يقلل من أهمية أفلاطون في تاريخ الفكر البشري، ويكفي هذا الفيلسوف الذي أنار درب البشرية بالمثل العليا، انه مؤسس أول جامعة عرفتها البشرية « أكاديمية أفلاطون» وانه مبتكر نظرية المُثل أو الصور العقلية، هذه النظرية المذهلة التي فرق فيها ما بين العالم العقلي والعالم المادي، وجعل فيها لكل شيء مادي أصلاً حقيقياً في عالم المُثل، وما هذا العالم المادي السفلي إلا وهم وظلال منعكس عن حقائق العالم العلوي، وهو مبتكر نظرية الكهف التي تشرح لنا خداع العالم المادي، وكيف يتحرر الانسان من قيوده الأرضية ليطلع على مصدر النور الحقيقي للمعرفة .لكن ذلك كله، لا يمنع من القول إن جمهورية أفلاطون، مشروع « مثالي» لإنقاذ أثينا من هزيمتها المريرة أمام إسبرطة وحلفائها، وهي في كل الأحوال ليست « فاضلة « تماماً بالمعنى المتعارف عليه لمفهوم الفضيلة .

القراءات 134 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78629

حاليا يوجد 20 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions