مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

الموت في المنافي

قيم هذه المقالة
(1 Vote)
Print Friendly, PDF & Email
الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع
 

 

لم يكن الرحيل الموجع لمؤيد البدري في منفاه الاسكتلندي، هو الأول ولن يكون الأخير لمشاهير العراق ورجاله ومبدعيه من علماء واكاديميين وادباء وفنانين وشخصيات عامة، وهم طشّار في أرجاء المعمورة «بلغة إنعام كجه جي في روايتها طشّاري» من مشرق الشمس حتى مغربها، لكن الملفت هو وصية البدري أن يدفن في المكان الذي يتوفى فيه، وهو مالم يرغب به مظفر النواب الذي عاد مؤخراً إلى وطنه بعد غربة طويلة، لكنه عاد جثة هامدة، ليشيع في يوم مشهود، لو علم به النواب أنه سيكون بهذا الشكل الذي سادته الفوضى لأوصى مثل البدري أن يدفن في مكان وفاته، وكذلك دفن سعدي يوسف في منفاه اللندني، وعبد الرزاق عبد الواحد في منفاه الباريسي، ومنصور البكري في منفاه ببرلين، فيما رحل قبل ذلك بسنين رافع الناصري في عمّان، وفؤاد سالم في دمشق، كما توفي أخيرهم وليس آخرهم الرسام الكبير طالب مكي، ولكم أن تذكروا البقية ممن لا يتسع المجال هنا لتعدادهم .
في كتابه « أمّةٌ في مَنفى» يرصد علي عبد الأمير عجام في أكثر من 550 صفحة ملامح من الثقافة العراقية ما بين حربين 1991 – 2003، ومن بين تلك الصفحات الطويلة والمقالات الملفتة للانتباه الفصل الأول «غابوا في صمت عميق» يتحدث فيه عن الذي رحلوا من الادباء والشعراء والكتاب في صمت داخل الوطن، أو في منافيهم بعيداً عن الوطن، ومن هؤلاء الشاعر الكبير الجواهري الذي رحل في دمشق عن98 عاماً، وفي رحيله يكتب البياتي « لا أعتقد أن الجواهري قد رحل، فهو باق بيننا، والشاعر لا يموت ولن يموت» ،والشاعر بلند الحيدري الذي توفي عن سبعين عاماً في مستشفى برومبتون وسط لندن تاركاً أكثر من عشر دواوين شهرية، من «خفقة الطين» الذي صدر العام 194 إلى «دروب المنفى» الذي صدر كما يكتب عجام متزامناً مع أيام رقوده في المستشفى، ومات الشاعر قبل أن يهنأ بكتابه الأخير، ويختار من شعر بلند مقطوعة موحية من قصيدته «الهويات العش» : وخرجت الليلة / كانت في جيبي عشر هويات تسمح لي أن أخرج/ هذي الليلة / اسمي بلند بن أكرم/ وأنا لم اقتل أحداً، لم أسرق أحداً / وبجيبي عشر هويات تشهد لي / فلماذا لا أخرج هذي الليلة / كان البحر بلا شطآن/ والظلمة كانت أكبر من عيني إنسان/ أعمق من عيني إنسان / ورصيف الشارع كان / خلواً إلا من صوت حذائي « .
ورحل عازف العود والمؤلف الموسيقي منير بشير في ملاذه الهنغاري عن 67 عاماً « وبفقدانه خسرت الموسيقى العربية الأصيلة أحد أعلامها في وقت عسير تمرّ به ، إذ تتعرض لتهديد جدي من قبل اتجاهات هجينة تُشِيع أميّة نغمية واسعة وذائقة متدنية بامتياز «، أما الشاعر البياتي الذي رحل في دمشق أيضاً عن 72 عاماً فهو الذي يقول بعد رفقة طويلة مع المنفى إنّ « كل المنافي وطن واحد « (قبرك .. في المنفى / وفي الوطن / قبرك ... في كل مكان / يشع فيه الضوء والكفن) . مثلما رحل في عمّان الكاتب والأديب والموسيقي والعازف الأول على آلة « الفيولا « أسعد محمد علي الذي يطلق عليه عجام تسمية « الوترُ المقطوع « وكتب الأديب السوري نبيل سليمان في اليوم التالي لرحيله متسائلاً : كيف يموت كاتب عراقي في المنفى حتى لو كان هذا المنفى عاصمة عربية؟ . وفي هذه العاصمة العربية حضرت الوفاة التشكيلي محمد صبري مؤسس جماعة الأربعة، وكان قد سبق مؤيد البدري في وصيته، حين أوصى زوجته وهو مستسلم للموت في مستشفى البشير في عمّان ألّا يدفن في العراق « ما معنى أن تستقبلني بلادي جثة، بينما هي أساءت إليّ كثيراً وأنا موجود حي « ؟ .
تحتاج أيها الصديق علي عبد الأمير عجام، إلى كتاب آخر، بحجم هذا الكتاب الفخم وأكبر، لكي تحكي لنا حكايات لا تنتهي عن قوافل العراقيين الذين مازالوا يموتون في المنافي، منهم من يوصي بدفنه في مكان وفاته، ومنهم من يرغب بالعودة إلى وطنه، ولو كان جثة هامدة.

القراءات 79 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78629

حاليا يوجد 6 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions