نجدة ونجيد والأدب الدبلوماسي
المؤلف : د . طه جزاع
كان من حسن حظ الدبلوماسية العراقية أن يترك هذا الطالب دراسة الطب ليواصل تحصيله الدراسي في كلية الحقوق، فقد أدرك بأنه ليس مؤهلاً لتشريح الجثث التي شاهدها ممددة بين أيادي الطلبة في قاعة تشريح كلية الطب في الأيام الأولى لدوامه في الكلية. ومنذ ذاك اليوم من العام 1942 بدأت شخصية نجدة فتحي صفوة الدبلوماسية بالتبلور، ومعها موهبة أدبية لا تخطئها العين، جعلته واحداً من أشهر الأدباء في عالم الدبلوماسية، إن لم يكن الأديب الوحيد الذي خرج من معطف العمل الدبلوماسي على مر عقود طويلة من تاريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة .
ولو تركنا أهمية الكتاب التوثيقي « الأدب والدبلوماسية في حياة نجدة فتحي صفوة» جانباً، لوجدنا تعاملاً إنسانياً راقياً، ووفاءً نادراً بين الأشقاء، ذلك أن مؤلفه هو نجيد شقيق نجدة، أحد أفراد عائلة « امبراطورية نون» - نجدة ونجلاء ونجيد ونبيل - أولاد النحات العراقي المعروف فتحي صفوة الذي أنجز عدداً من الأعمال النحتية، منها عمل نحتي يمثل الملك فيصل الأول, وآخر لجميل صدقي الزهاوي لمناسبة الحفل التأبيني الذي أقيم للشاعر عام 1937، وتم عرض التمثال في قاعة المكتبة العامة التي كانت قائمة في الباب المعظم قبل هدمها. أما زوجة نجيد فهي أول من اقترح عليه تأليف هذا الكتاب، وانتظرت بصبر كبير حتى تم إنجازه بمساعدة فنية من حفيدهما علي الذي تولى تنزيل الصور في الكتاب ليصدر عن الذاكرة للنشر والتوزيع بطباعة فخمة راقية من 480 صفحة مع أكثر من 125 صورة ووثيقة نادرة، منها بالأسود والأبيض وأخرى بالألوان.. والحق يقال فإن مؤلف الكتاب السيد نجيد، لم يهمل شيئاً من حياة أخيه نجدة منذ طفولته حتى رحيله في عَمان عن عمر 91 عاماً في كانون الأول 2013 والتي فَضَل المجيء إليها وهو على أبواب التسعين بعد إقامة طويلة في لندن منذ نهاية السبعينيات. يكتب نجيد عن ظروف إنجازه هذا الكتاب عن شقيقه : « كان الوقت الذي قضيته لإعداد كتابي أشبه بأمواج تجتاح مشاعري، فمرّة تأخذني الذاكرة لأيام عاصرت فيها أخي الكبير فتغمرني السعادة، وأخرى تذكّرني بساعة فقدانه فيعتصر قلبي ألماً، ثم لا تلبث وتواجهني موجة لاحقة لتعيد بي إلى صورته التي توحي بإحساس مرهف كأديب، وفكر ثاقب كدبلوماسي، وباحث جاد كمؤرخ، تلك كانت حالتي وأنا بين أوراقي ومصادر كتابي»، ثم يوجه ما يشبه العتب إلى المثقفين: « ولا أخفي بأن ما شعرت به من فتور المثقفين لذكراه قد زاد من ألمي، وتساءلت مع نفسي هل يجوز أن تطوى وبهذه البساطة، صفحة أديب ودبلوماسي ومؤرخ كانت مؤلفاته وأبحاثه موضع اهتمام المطّلعين، وكان ما يكتبه دأبًا وديدنًا في صحيفة الشرق الأوسط للإشادة بمن رحلوا من رجال العلم والسياسة والأدب كلما حلّت ذكرى وفاتهم!»، ويقصد نجيد بذلك الزاوية اليومية الشهيرة «هذا اليوم في التاريخ» التي كان يكتبها شقيقه في الصحيفة لمدة خمس سنوات مستمرة .لا أنوي عرض الكتاب في هذه المساحة الضيقة، فذلك ليس بالأمر الممكن، كما أنه لا يغني عن الرجوع إليه، لكن من خلال السنين الطويلة التي قضاها نجدة فتحي صفوة في السلك الدبلوماسي، هناك مواقف مؤثرة وفي غاية الصعوبة، ومنها ما حدث عندما عمل سكرتيراً أولاً في السفارة العراقية بأنقرة العام 1958 «وكان من المنتظر أن يصل إلى إسطنبول في صباح 14 تموز الملك فيصل الثاني ومعه الأمير عبد الإله ووالدته، وأخته الأميرة عبدية (خالة الملك) ليرافقوا الملك فيصل إلى إيطاليا بعد انتهائه من حضور مؤتمر الملوك والرؤساء في إسطنبول ليجتمعوا هناك بالأميرة فاضلة خطيبة الملك فيصل لشراء جهاز الزفاف» ، وعندما اتجه صفوة ذلك الصباح إلى مطار إسطنبول ليكون مع السفير نجيب الراوي في استقبال الملك، فإنه لم يجد السفير في المطار، كما رأى على وجوه الحاضرين شيئاً من الوجوم لم يفهمه في البداية، إلى أن اقترب منه سفير باكستان وهمس له بأن ثورة حدثت في بغداد، وأن الملك وولي العهد ونوري السعيد قد قتلوا. ومن الحكايات الغريبة التي يرويها صفوة حكاية قنصل العراق في تبريز بإيران عبد الوهاب درويش الذي لقي مصرعه عام 1941 اثناء تبادل لإطلاق النار بين القوات السوفيتية والجيش الإيراني قرب القنصلية في تلك المدينة النائية في شمال إيران : « أطل القنصل من النافذة للاطلاع على ما يجري فأصيب في صدره بطلقة أودت بحياته في الحال» ! . شيء واحد أسفت له، وأنا أقرأ حياة نجدة فتحي صفوة الإنسانية والأدبية وحوادث خدمته الدبلوماسية لأكثر من 22 عاماً في سفارات العراق بلندن وعمان والقاهرة وجدة وباريس وأنقرة وواشنطن وموسكو، بدأها منذ صدور الإرادة الملكية بتعيينه في وظيفة تلميذ دبلوماسي، هو استقالته من وظيفته وزيراً مفوضاً في الخارجية العراقية أواخر العام 1967، رافضاً نقله إلى جمهورية الصين الشعبية، ومع أنه يبرر تلك الاستقالة بسبب خلافه الحاد مع وزير الخارجية وقتذاك، إلا أننا خسرنا فرصة كبيرة في معرفة الصين من خلال دبلوماسي قدير ومؤرخ وكاتب بارع مثله رحمه الله .
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.