الدَّبابات لا تُعَّلِم الحُب
المؤلف : د . طه جزاع
من كوفي شوب « فوانيس» في شارع الجاردنز بالعاصمة الأردنية عَمان التي اتخذها الشاعر حميد سعيد معتَكفاً ومحطة وعنواناً، والتي يصلها عادة مبكراً عند افتتاح أبوابها، ليتصفح جريدة يومية وعلى طاولته المعتادة فنجان القهوة المُرّة وكأس ماء بارد من دون أن يسأل النادل، وفي يوم شتائي بارد، من أيام كانون الثاني، تبدأ أحاديث كتاب « قال لي عبد الله « لحظة توقف الشاعر عند مقالةٍ بعنوان « قول في شخصية الإنسان» جاء فيها إن ذاكرة الإنسان ليست حيادية، بمعنى إنها لا تنقل ما كان وما حدث، نقلاً آلياً أو موضوعياً، بل تتدخل في مجرى الأحداث، فتضيف ما تضيف، وتسقط ما تُسقط. وبينما كان الشاعر يتفحص المقالة، اقترب عبد الله من طاولته، وقبل أن يجلس يبدأ الحديث عن علم النفس الذي يوسع مساحة الحواس التي لا تتسم بالموضوعية. ومن هذا اللقاء الصباحي الذي لم يكن هو اللقاء الأول بينهما، شاءت الكتابة أن يبدأ سعيد، من دون أن يلزم نفسه فيما سيكتبه «من أقوال عبد الله» بالتسلسل الزمني الذي جرت فيه، لكن الحديث يبدأ من علم النفس والفرق بين الإنسان الإيجابي والإنسان السلبي، مروراً بموقف المتنبي، حين جاءه وهو في الكوفة خبر وفاة خولة، أخت سيف الدولة، واستذكاراً للشيخ الجليل الباحث المعاصر الشيخ محمود شاكر، مؤلف أهم كتاب في العصر الحديث عن أبي الطّيب، والذي : «حاول أن يجد في شعر المتنبي وفي سيرته ما يحيل إلى علاقة حب بين خولة الحمدانية والشاعر العظيم». ولأن العراق لا يفارق الشاعر فقد داهمه يوماً عبد الله – الذي يمثل صوت الشاعر الداخلي ومحاوره - وهو يفكر بما حدث ويحدث في وطنه، بفعل عدوانية المركزية الغربية، ومثل ذلك ما حدث في فلسطين ويحدث، وهذا الحال طالما قاده إلى أسئلة تتعلق بالفعل الحضاري لهذه المركزية العدوانية مع اعترافه بضخامة الإنجاز الحضاري الغربي التاريخي، غير أن مواصفات الحكام لم تتغّير من أباطرة أوربا إلى رؤساء أميركا. ويتدخل عبد الله كعادته في هذا الحوار مشيراً إلى أن انجازات الأوربيين للحضارة الإنسانية : « لم تستطع ان تدفع حربين كونيتين مدمرتين، وقبلهما وبعدهما مئات الحروب الاستعمارية والتوسعية والممارسات الوحشية ضد الشعوب وأوطانها وخصوصياتها القومية والثقافية «. ويقاطع الشاعر الذي يصف نفسه بالمريد شيخه عبد الله بالقول :» يسمّي العملاق الإغريقي كازنتزاكي، الهوة بين التقدم المادي وتراجع القيم في الحضارة الغربية المعاصرة « الهوة المظلمة « ولعل السيّاب من بين الذين أدركوا هذه الهوّة، فواجهها بما يذكرنا بأدعية الشعر الرافديني القديم»، ثم تأتي الإشارة إلى اعتراف هنري ميللر، وهو رمز من رموز الإنجاز الحضاري الغربي المعاصر، « نحن امة متسممة، تعيش انحطاطها « .وفي يوم من أيامه التي طالت بعمّان، والتي تكاد تتكرر من دون تغيير، خطر للشاعر حديث الروائي التشيكي ميلان كونديرا يتعلق بالإحتلال الروسي لبلاده، ففي اليوم الثالث للغزو كان ميلان يقود سيارته فأوقفه ضابط روسي ليسأله عما يشعر به وعن عواطفه، موضحاً أنه لم يكن يقصد الإستفزاز والسخرية: «عليك أن تعرف بأننا نحب التشيكيين، نحن نحبكم جميعاً، فلماذا لا يريد التشيكيون الذين نحبهم جداً، أن يعيشوا معنا وأن يعيشوا مثلنا، يا للأسف ان نضطر إلى استخدام الدبابات، لنعلمهم طبيعة الحب؟!». ويتساءل كونديرا إن كان الضابط الروسي يدرك ما يقول؟ : «وهل كان ساذجاً إلى حد الجرأة على القول بأن دبابات المحتلين، بإمكانها أن تعلم الشعب الذي تدوس سرفاتها على كرامة ترابه الوطني .. الحب؟!» . ويتحدث الشاعر فيما يتحدث عن معرض الموسيقيين العراقيين وما آل إليه بعد الغزو الأمريكي لبغداد، وهو المشروع الذي بدأ برسوم « كرافك بورتريت» لرموز الحركة الموسيقية والغنائية في العراق، في القرنين الأخيرين، وكان الملا عثمان الموصلي أول فنان، تقدمت صورته المعرض، ثم صور قرّاء المقام العراقي أحمد الزيدان وعباس الشيخلي ورشيد القندرجي، ومن المطربين يوسف الكربلائي وصديقة الملاية وعبد الأمير طويرجاوي.» وضم المعرض كذلك صور الفنانين العرب الذين عملوا في العراق، أمثال الشريف محيي الدين حيدر والشيخ علي الدرويش وروحي الخماش وجميل قشطة، كما ضم آلات موسيقية لفنانين بارزين، منها عود الشريف محيي الدين حيدر وكمنجة جميل بشير وممتلكات شخصية لبعض الفنانين ومنها « مسبحة « المطرب الكبير داخل حسن» . غير أن دبابات المحتل سبقت موعد افتتاح المعرض في البناية التراثية التي تقع عند مدخل شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي : «وهكذا نُهبت محتويات المعرض أو أتلفت» .
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.