شارع في ذاكرة رجل
المؤلف : د . طه جزاع
الشوارع لا تتشابه، بعضها ليس أكثر من اسفلت أو حجارة مرصوفة بعناية، وأرصفة للمارة وعلامات مرورية، وضجيج مركبات، بلا روح ولا تاريخ ولا ذاكرة، غير أن الشوارع التي تتنفس وتحيا وتنبض بروح المكان والزمان، تبقى في وجدان الناس وذاكرتهم الجمعية، وان تعرضت للإهمال واللامبالاة، وفقدت الكثير من معالمها وأبنيتها، وجار عليها الزمان، ودارت عليها الأيام دورتها القاسية.. شارع الرشيد في بغداد هو مثال حي على المكان حين يتحول إلى وجدان، وتتحول العِمارة التراثية، والمحلات السكنية على جانبيه، إلى ذكرى وروح حاضرة تمتد من جيل إلى جيل، يوم كان هذا الشارع لا ينام حتى مطلع الفجر، والناس يرتادون مقاهيه التي كانت أشبه بمنتديات أدبية وثقافية، أو يتبضعون من أسواقه التي تعرض مختلف الماركات الفاخرة، أو يراجعون عيادة طبيب، أو يقضون أوقاتاً عائلية ممتعة في دار سينما أو قاعة مسرح. وقد صدرت عن هذا الشارع العديد من المؤلفات، وكُتبت العشرات من القصص والروايات التي تَحوَل بعضها إلى أفلام سينمائية ووثائقية، إلا أن ميزة كتاب «رحلة في ذاكرة شارع الرشيد» للكاتب والباحث المغترب في الولايات المتحدة، سعدون الجنابي، أن مؤلفه ولد وعاش طفولته وفتوته وشبابه في منطقة مجاورة لشارع الرشيد، وبقي عاشقاً متيماً لكل ذكرى من الذكريات المرتبطة بهذا الشارع بقيت تتململُ في ذاكرته وروحه مثل وميضٍ لا يخبو في ظلمة الأعماق.. ولد الجنابي في منطقة المرَبعة العام 1947، وولد في العام نفسه : « ابن جيراننا داود ابن سليمان، وهو يهودي، وموفق ابن أم ناصر وبولص ابن زكريا، وهما مسيحيان». وفي ذلك تلميح واشارة في غاية الوضوح إلى تماسك النسيج الاجتماعي البغدادي، المُنَزه والمتسامي عن الاختلافات العِرقية والدينية والطائفية، وهكذا كان الأمر في جميع مدن العراق : «كنا نحتفل بأعياد كل صديق بصرف النظر عن دينه وطائفته». ومن المثير للاهتمام أن هذا الشارع يقع بين بابين، هما باب المعظم من الشمال، وباب الشرقي من الجنوب، ويمتد إلى مسافة أربعة كيلومترات، ويقطع الشارع أربعة جسور: الشهداء، الأحرار، السنك، والجمهورية، وتقع على امتداد الشارع أربعة جوامع كبيرة : الأحمدية، والحيدر خانة، وسيد سلطان علي، وحسين باشا، ويضم أربعة أسواق تاريخية : الهرج، السراي، الصفافير، والشورجة، وعلى امتداده تقع أربعة بنوك كبرى : الرافدين، المركزي، الرشيد، والزراعي، ومن المفارقات أن باص نقل الركاب الذي يخترق الشارع ذهاباً وإياباً هو باص مصلحة نقل الركاب العامة رقم « 4 «، وبذلك يلتقط الجنابي اشارة ذكية وطريفة وغريبة تربط بين شارع الرشيد والرقم أربعة، ويزيدها من التاريخ أن الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي سمي الشارع باسمه تزوج أربع مرات، ورزق بأربعة أولاد : الأمين والمأمون والمعتمد والمعتصم بالله ! .
ويعرج الجنابي على سكن الملوك ومقرات الحكومة، وسوق هرج، ومقاهي الشعراء والأدباء مثل الزهاوي، وحسن عجمي، والشاهبندر، والبرلمان، وهنا أيضاً « شربت زبيب حجي زبالة « الشهير الذي افتتح عام 1900 ومن رواده ملوك ورؤساء وكبار الشخصيات، وافران كعك السيد، وكان من زبائنه العائلة المالكة وكبار المسؤولين، وفيه أنشد الرصافي: « كلما فكرت بالكعك اشتريت ، كعك السيد اشهى ما اشتريت» ، فرد عليه الزهاوي : «يا لذتي تجددي بأكل كعك السيدِ» ! .. يتناول الكتاب أيضاً العديد من معالم الشارع ومنها، سوق الصفافير، وخان مرجان، وباب الأغا، وتحت التكية، والشورجة، وعكد النصارى، والجنابيين، وحافظ القاضي، والعبخانة، ورأس القرية والذبان، وستوديو بابل مصور الرؤساء، وبناية بيت لنج ومكتبة مكنزي، والساعاتي ناجي جواد، وبناية اوروزدي باك، وجامع سيد سلطان علي، وصيدلية المرَبعة، ومقهى البرازيلية، وسينما الرشيد الصيفي، وسينما الزوراء، وشارع باب الشيخ، وبيت ساسون حسقيل أول وزير مالية في أول تشكيلة وزارية عراقية والذي سكنته الآنسة البريطانية غيرتورد بيل « المس بيل « مستشارة الملك فيصل الأول في أول وصولها للعراق وقبل انتقالها إلى فندق تايكرس بالاس المطل على نهر دجلة.
سعدون الجنابي مغترب بجسده فحسب، أما روحه فمازالت تسرح وتمرح في أزقة ودرابين محلة المربعة مع أقرانه، قد تُمحى من ذاكرته ذات يوم أشياء كثيرة، باستثناء شارع الرشيد بتفاصيله وحكاياته وأعمدته، وملعب طفولته وذكريات فتوته وشبابه، فإنها عصية على النسيان .
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.