خالد وبرتراند رَسل
المؤلف : د . طه جزاع
لكَ أن تتخيل المكانة العالمية التي كان يحظى بها في ستينيات القرن الماضي، آخر الفلاسفة العظام الذين أنجبهم التاريخ، وقد ناهز يومها التسعين عاماً، وهو يكتب طلباً إلى هارولد ويلسون زعيم المعارضة العمالية وقتذاك للحصول على إذن اقامة تضمن بقاء المواطن العراقي خالد أحمد زكي في بريطانيا، ومع ذلك فإن هذا الطلب الذي تقدم به فيلسوف السلام برتراند رسل لم يجد أذناً صاغية عند أحد زعماء حزب العمال المختصين بشؤون وزارة الداخلية، وبقي خالد مهدداً بمخاطر العودة إلى بلده بعد اكمال دراسته الجامعية، واتمام دورته في رئاسة جمعية الطلبة في بريطانيا. فمن هو هذا الطالب العراقي الذي صار قريباً من رجل عصره الفيلسوف البريطاني الأكثر شهرة في القرن العشرين، وعمل منذ نهاية العام 1962 في منظمة برتراند رسل للسلام حتى اختير ليكون سكرتيراً لهذه المنظمة التي كانت تؤدي دوراً مهماً في الدعوة للسلام ومناهضة الحروب، وإدانة جرائم الحرب الأميركية في فيتنام، ومقاومة انتشار الأسلحة النووية ؟ .
بالتأكيد فإن شخصية مثل خالد أحمد زكي، ليست مجهولة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي على اختلاف أجنحته، ولا على عموم اليساريين، غير أن الكثير من الغموض يكتنف مسيرة هذا الرجل، وربما يكتنفها أيضاً بعض الخيال وكأنه شخصية اسطورية من الماضي البعيد، مع أنه رحل عن عالمنا وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، مطلع حزيران 1968 مقاتلاً مع عدد محدود من رفاقه في هور الغموكة القريب من ناحية الغراف، على طريقة الكفاح المسلح الجيفارية التي اقنعه بها الصحفي والمفكر الفرنسي ريجيس دوبريه وقد التقاه خالد بعد عودته من بوليفيا على خلفية انتكاسة ثورة جيفارا، وفيما بعد دخلت مواجهة هور الغموكة غير المتكافئة عالم الأدب في رواية "وليمة لأعشاب البحر.. نشيد الموت" للروائي السوري حيدر حيدر .
كان الشاب خالد المنتمي إلى أسرة ميسورة أرسلته في العام 1955 على حسابها الخاص لدراسة الهندسة في بريطانيا، من طراز الشباب المثابرين في دراستهم، الجادين في حياتهم، المؤمنين بقدراتهم على التغيير، مع أنه يمتلك من الوسامة ما يجعل الناظر اليه يتخيله نجماً من نجوم الوسامة في السينما العالمية خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، أمثال إلفيس برسلي وآلان ديلون، وربما يكون أكثر شبهاً بالممثل العربي العالمي عمر الشريف، لكن هذا الشاب الوسيم اختار أن يكون مع الفيلسوف رسل الذي عمل جاهداً مع الفيلسوف الفرنسي سارتر على تشكيل محكمة دولية لمحاكمة الأمريكان على جرائمهم في فيتنام، وأختار الانضمام إلى مؤسسة برتراند رسل للسلام، ولم يتوسل البقاء في بريطانيا، واختار العودة إلى بلده لينفذ ما في ذهنه من أفكار حول الكفاح المسلح على طريقة جيفارا .
وبالعودة إلى محاولة رسل للحصول على إذن الإقامة الإنكليزية لخالد أحمد زكي، التي ذكرها كريس فارلي مدير مؤسسة برتراند رسل للسلام في كلمة له خلال اجتماع تاريخي شهدته لندن في آب 1968 ونقلها لنا الراحل قحطان حبيب الملاك في كتيبه عن زكي ضمن سلسلة ناس من بلدنا، فإن فارلي يؤكد بأنهم أفلحوا بإيجاد وسيلة أخرى لضمان بقاء خالد في بريطانيا : "ولكن قلبه كان يتوق إلى مكان آخر ، حيث راح يخطط للعودة للوطن" .
بعد ذلك بسنوات طويلة، يعود المهندس المعماري موفق جواد الطائي من لندن، وهو الذي اصبح مطلع السبعينيات نائباً لرئيس جمعية الطلبة العراقيين في بريطانيا التي رأسها خالد احمد زكي أيام عمله مع برتراند رسل، وتشاء الاقدار أن يُكلف الطائي بمهمة هندسية لتطوير مناطق الأهوار، وهناك يقرر البحث عن المكان الذي طبق فيه رفيقه خالد فكرة "الكفاح المسلح"، ليكتشف أنه اختار منطقة لحجز مرضى الجذام تخشى أجهزة السلطة الاقتراب منها ... مثلما اختار جيفارا العمل التطوعي في مستعمرة سان بابلو لمرضى الجذام على ضفاف نهر الأمازون ! .
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.