الخيّام المفقود مع تيتانك
المؤلف : د . طه جزاع
(في أعماق المحيط الأطلسي كتاب، وقصّته هي التي سأرويها. وربّما كنتم تعرفون خاتمتها، فالصحف قد ذكرتها في حينه، وسجّلتها بعض المؤلَّفات مذّاك : عندما غرقت الباخرة « تيتانك « في الليلة الرابعة عشرة من شهر نيسان «ابريل» 1912 م في عُرض مياه « الأرض الجديدة « كان أعظمُ الضحايا وأعجبُها كتاباً هو نسخة فريدة من «رباعيّات» عمر الخيّام، وهو حكيم فارسيّ وشاعر وفلكيّ ) .
بهذه المقدمة المشوقة على لسان بطل الرواية بنجامين عُ. لوساج، يبدأ أمين معلوف روايته التاريخية سمرقند التي تجمع ثلاث شخصيات مدهشة ومثيرة للجدل، عاشوا في زمن واحد ببلاد فارس: نظام الملك أشهر وزراء السلاجقة، وعمر الخيّام النيسابوري الشاعر والفيلسوف، وحسن الصباح زعيم ما يسمى بجماعة الحشاشين في قلعة آلموت. وقد يذهب بكم الظن، أن شخصية بطل الرواية وأحداثها هي من نسج الخيال، ذلك أن القارئ يسترجع ما شاهده في فيلم تيتانك لجيمس كاميرون، الذي ركز على حكاية حب متخيلة بين جاك - ليوناردو دي كابريو- وروز- كيت وينسليت – تقوم عليها دراما الفيلم بأكمله، كما يولي كاميرون اهتماماً بماسة المحيط، الماسة الزرقاء الخيالية، التي تقوم العجوز روز بإعادتها الى مياه المحيط في نهاية الفيلم. أما الضحايا الآخرون فلم يلتفت لهم كثيراً، ومنهم الضحايا اللبنانيون الذين يقدرون بأكثر من ثمانين ضحية ابتلعتهم مياه المحيط الأطلسي الذي أطلق عليه العرب القدماء تسمية «بحر الظلمات»، ولم نسمع عنهم طوال الفيلم سوى نداء مذعور قصير باللهجة اللبنانية أطلقته أم وهي تستعجل ولدها للفرار من السفينة : « يللا يللا « والذي ضاع بين بقية الأصوات، وكذلك أهمل الفيلم ضياع نسخة أصلية نادرة من رباعيات الخيّام يُعتقد أنها بخط الخيّام، كانت بحوزة الراكب بنجامين عُمر لوساج، وهو نفسه بطل رواية سمرقند وقد حصل عليها من أحد الأمراء القاجاريين.
تكمن عبقرية أمين معلوف الروائي اللبناني الفرنسي الذي يكتب رواياته باللغة الفرنسية، في أنه يستلهم تاريخاً حقيقياً، ويستخدم أحداثاً واقعية، ليخلق منها عملاً روائياً مدهشاً، كما فعل في روايته الشهيرة ليون الأفريقي، أو الحروب الصليبية، أو حدائق النور عن ماني مؤسس المانوية، أو في صخرة طانيوس التي تروي قصة الصراع العثماني الإنكليزي المصري للسيطرة على جبل لبنان. صحيح أنه يصنع خيالاً تاريخياً مدهشاً ومشوقاً استحق معه أرفع الجوائز والأوسمة كجائزة غونكور الأدبية الفرنسية ووسام الاستحقاق الوطني الفرنسي ووسام الأرز اللبناني، لكن براعته تكمن في أنه يستلهم التاريخ بلا تشويه ولا تحوير ولا مبالغة، فهو يكتب التاريخ بطريقة روائية عمادها الواقع التاريخي، والخيال الروائي الفذ، والربط بين الأحداث والشخصيات ببراعة واقناع ومهارة فائقة.
ونعود إلى أصل الموضوع، تلك المخطوطة الأصلية لرباعيات الخيّام «مخطوطة سمرقند» التي غرقت مع تيتانك، فهناك العديد من الروايات حول هذا الكنز النفيس، لكنها جميعاً تتفق على أن غرق السفينة ما هو إلا غرق ماسة صغيرة، قياساً لمنجمٍ من الماس، تمثله مخطوطة الخيّام المسماة بـ «عُمر أعظم»، تلك التي أعاد معلوف ذكراها إلى الأذهان في روايته الهائلة سمرقند التي اعتمد معربها على ترجمة الشاعر العراقي احمد الصافي النجفي لرباعيات الخيّام، من بين ترجمات عديدة أبرزها ترجمة الشاعر جميل صدقي الزهاوي، والشاعر اللبناني وديع البستاني، وترجمة الشاعر المصري أحمد رامي التي غنتها أم كلثوم مطلع الخمسينيات بألحان رياض السنباطي.
مخرج تيتانك انشغل بمحور فيلمه، قصة حب جاك وروز، وأغنية الكندية سيلون ديون «قلبي سيستمر»، بينما انشغل صانع رواية سمرقند بمخطوطة رباعيات الخيّام الأصلية التي غرقت في بحر الظلمات إلى الأبد .
من قال إن المُشاهِد المعاصر يهمهُ مصير مخطوطة الخيّام أكثر مما تهمهُ قبلة حب ساخنة بين جاك وروز على أنغام موسيقى أغنية سيلون ديون؟! .
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.