يوم تُرجمت البُرْدَة إلى الصينية
المؤلف : د . طه جزاع
بحسب الأديب والمترجم الصيني المعاصر شوي تشينغ قوه، فإن المرحلة الأولى لترجمة الأدب العربي إلى الصينية في العصر الحديث بدأت مع قصيدة البُرْدَة للبوصيري، عندما عاد العالِم المسلم ما ده شينغ من البلاد العربية إلى الصين ومعه هذا الكتاب الذي سيكون أول عمل أدبي - ديني يترجم إلى اللغة الصينية أواخر القرن التاسع عشر، ويصدر بكتاب مع النَص العربي عام 1896.. وبذلك تكون قصيدة البُرْدَة قد افتتحت المرحلة الأولى لترجمة الأدب العربي في الصين، وهي المرحلة التي انتهت يوم تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 لتبدأ بعدها مرحلة جديدة .
ويعرف كل مهتم بالعلاقات العربية – الصينية بأنها قديمة جداً، ربما تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد يوم وصلت السفن الصينية إلى عدد من الموانئ المطلة على المنطقة العربية، وأشهرها الأبلّة والبصرة وعدن، وصحار العُمانية، ثم استمرت عبر القرون اللاحقة، حتى عصر الرسالة الاسلامية، وما أعقب ذلك من فتوحات وتمازج بين شعوب وحضارات العالم القديم، ومنها الحضارة الصينية. غير أن تلك العلاقات اقتصرت على نحو خاص بالتجارة المتبادلة والتمازج البشري الذي تتطلبه، من غير أن تتعداها إلى الجانب الثقافي، وحتى بعد وصول الإسلام إلى الصين بفضل التجار العرب والفرس والترك - ومنهم من اختار البقاء في الصين والزواج وتكوين الأسر الصينية المسلمة التي هي نواة المسلمين في الصين - فإن هؤلاء لم يضطروا إلى ترجمة الكتب الدينية والأدبية لأنهم كانوا يقرؤونها بلغاتهم الاصلية، أو باللغة العربية التي يجيدونها، غير أنه بمرور الزمن قام عدد من المشايخ الصينيين الذين يتحدثون العربية إلى جانب اللغة الصينية، بمحاولات ترجمة كتب التفاسير والفقه وغير ذلك من الكتب الإسلامية، فضلاً عن جهدهم المتواصل لترجمة معاني القرآن الكريم .
وترجمة القرآن الكريم مثار قبول أو رفض بين علماء الدين والفقهاء واللغويين، فمنهم من يجيزها، ومنهم من يجدها غير ممكنة أو مستحيلة، مثل أستاذ النحو والتعبير القرآني د . فاضل السامرائي الذي أشار في واحدة من لمساته البيانية إلى أن القرآن الكريم فيه تقديم وتأخير ومرادفات ومبالغات، فكيف على سبيل المثال تُترجم غفار وغفور، وهماز وهمزة، وهل يفرقون بين الرحمن والرحيم ودلالة الرحمن غير دلالة الرحمة؟ وحتى الترجمة إلى اللغة الإنكليزية فإنه يوضح بأن اللغات قسمان، معربة ومبنية، والإنكليزية مبنية، وهي تأتي ضمن نسق واحد لا تستطيع أن تقدم فيه أو تؤخر، وكل كلمة تحمل موضعها في المكان. أما محاولات ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الصينية، فإنها كثيرة، لكنها كلها متأخرة جداً مقارنة بالوقت المبكر لدخول الإسلام إلى أراضيها قبل نحو ألف وثلاثمائة سنة.. وفي الكتاب الفخم والمهم الذي أصدره بيت الحكمة قبل عامين « العرب والصين قصة حضارتين « تفصيل لتلك الترجمات، فهذا الكتاب الذي وضعه د. سعيد جمال الدين ما ينغ جغ رئيس قسم اللغة العربية في جامعة صون يات صن، و د. عبد الله شمت المجيدل، أستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة دمشق، وقدمت له د. خديجة حسن جاسم، قدم عرضاً وافياً للعلاقات الحضارية العربية الصينية، وأثر اللغة العربية في اللغة القومية لمسلمي الصين، فضلاً عن فصل كامل عن مراحل ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية، ابتداءً من أول ترجمة جاءت عقب وصول ترجمات لمعاني القرآن باللغة الإنكليزية أواخر القرن التاسع عشر إلى الصين وصدرت العام 1927، وصولاً إلى آخر ترجمة تضم موجز الشرح ومجموعة المختارات صدرت في هونغ كونغ العام 2011، وهي الترجمة الثامنة عشرة لمعاني القرآن الكريم وتفسيره باللغة الصينية .
يبدو الدكتور شوي تشينغ قوه، مثل عاشق متيم وهو يتحدث عن تعلمه اللغة العربية، وتعلقه بها، حتى بات يكتب بحوثه بالعربية ثم تترجم إلى الإنكليزية أو الصينية، ومنها بحثه الموسوم « الأدب العربي في الصين» الذي أشار فيه إلى قصيدة البُرْدَة، ومنذ حصوله على الدكتوراه في أوائل التسعينيات، ترجم عشرات الأعمال لأدباء عرب من روائيين وشعراء معاصرين، ومن شدة اعجابه وتأثره بأعمال نجيب محفوظ فقد التقاه في القاهرة عام 1987، كما اصبح صديقاً لأدونيس، وكذلك قرأ وترجم لجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، والسياب والبياتي وعبد الصبور وأمل دنقل ونزار قباني ومحمود درويش وسعدي يوسف والطيب صالح وغيرهم الكثير، وقبل ذلك كان قد أطلع على حكايات ألف ليلة وليلة، وقرأها مرات عديدة .
وعن ترجمة قصيدة البوصيري إلى الصينية يخبرنا أن المترجم الحاج ماده شينغ قد وافته المنية قبل إتمام الترجمة، ولم تتم إلا على يدي تلميذين من تلاميذه ترجماها إلى اللغة الصينية الموزونة الكلاسيكية لتطبع وتوزع وتنتشر بين المسلمين في الصين بعد وفاته.
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.