رئيسُ جمهورية مات، في كونٍ مواز

قيم هذه المقالة
(3 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email
في ذلك المساء المشؤوم، اطل مقدم الاخبار في غير وقت النشرة، كانت مشاعر الحزن باديةً عليه للغاية، لم يطل حين تحدث بمفرداتٍ قليلة ..
"مواطنونا الكرام، اعلن ديوان الرئاسة قبل قليل ان فخامة الرئيس قد انتقل الى رحمة الله بعد صراعه الاخير مع المرض.."، اعتصرت العبرة حلق المذيع، الا انه عاود بصعوبة بالغة " .. فانا لله وانا اليه راجعون.."..
وقبل ان تتغير الصورة على الشاشة، رأى الناس كيف وضع المذيع يداه على وجهه وهمّ بنشيجٍ وبكاء عميقين ..
اسفل شاشة القناة الوطنية، ظهر شرط اسود يعيد على المواطنين نبأ رحيل رئيسٍ خدم بلاده لعدد من السنوات، حقق فيها ما يطمح اليه شعبه، و صنع المستحيل لرفاهية بلاده وامنها واحترامها بين البلدان الاخرى، فيما انقلبت الصور الشخصية للمواطنين على مواقع التواصل الى صورة الفقيد بالابيض والاسود، مع شريط اسود في زواياها، وتحولت البلاد الى مأتمٍ كبير..
لم تكن العاصمة قد عاشت حزنا موحدا كهذا على شخصٍ واحد، اوحاكم سابق، كما فعلت برحيل هذا الرئيس، لقد بدأت المباني تتشح بالسواد، وتم تعليق لافتات النعي حتى وقتٍ متاخرٍ من تلك الليلة، واطلقت الجوامع تكبيرات الحزن، وبقيت مقطوعة الرقاد الاخير العالمية تعزف على شاشات التلفزيون الوطني.
في الصباح، فُتح باب القصر الجهوري المهيب، وظهر خطان من جنود التشريفات العسكرية ببدلاتهم البيضاء وخوذهم المزينة بالريش وقد احنوا رؤوسهم، وامسكوا ببنادقهم بشكل مقلوب، كانت وجوههم تعكس الحزن كله، ومسيرهم يبدو كمن يجر قدميه عبثا، وظهر من بين الخطين نعشٌ كبير تم تغطيته بعلم البلاد، ووضعت عليه بعض اكاليل الورد، يحمله ستة من جنود الشرف، كانوا يسيرون على وقع الموسيقى الجنائزية الحزينة، والتي يعزفها فريق اخر هم الجوق الموسيقي، وضع النعش على عربة تجرها اربعة خيول بيضاء، وتقدم صفا الحرس امامها، وبدأ مسير جنازة الرئيس تاركا قصره، ومتبوعا باكبر رجال الدولة الذين اعتصرت قلوبهم غصة الوداع، ركز المصورون عدساتهم على اعين امر سرية الحرس، الذي اخفض سيفه وكان يسير امام الحرس الحزنى الاخرين، لقد كان الدمع يترقرق من عينيه، والالم بادٍ على خطواته التي يجرها جراً وفق المسير الجنائزي، بقي التشييع يسير بهدوء هكذا، الحرس والجوق الموسيقي، فعربة النعش، ثم رجال الدولة، حتى وصل الى باب المنطقة الخضراء..
خارج اسوار المنطقة، كان الشعبُ يبتلع الهواء ليصرخ، لقد اخرج رئيسهم الذي عشقوه، ولكن في نعش تجره الخيول، خرج من المنطقة الرئاسية نحو جسر الجمهورية، تابعا رجال الحرس وهم يخفضون سيوفهم ويحنون رؤسهم، وعلى جسر الجمهورية، كان صفان من الناس قد اصطفا على جانبيه، يرمون بالزهور على النعش وامام الموكب الكبير، اكتسى الاسفلت بالورد، وزاحم صوت النحيب اصوات نوارس دجلة، حتى اذا وصل الموكب الى ساحة التحرير، كان صف من حرس الشرف قد بدأ اطلاق الرصاص في الهواء كله في ان واحد، اطلاقة، فاثنتين، فثلاث، حتى وضع النعش تحت نصب الحرية..
هناك، كان عازف بيانو يجلس امام البيانو خاصته تحت النصب، والناس تحيط بالساحة من كل الجهات، لقد ربطت مكبرات الصوت الى هذا البيانو، ومنه الى كل المدن في البلاد، ومع اول ضرباته على مفاتيحها، رجت البلاد بالحزن، واوقف رجال المرور حركة السير كلها، وتوقفت الحياة ..
كان النعش محاطا بحرس الشرف، والشعب في الساحة واقف يستمع الى مقطوعة الرقاد الاخير تلك، خلع كل من يرتدي كوفيةً او خوذةً او قبعة ماعلى راسه، واحنى رأسه بصمت، واستسلم امام القدر الذي اخذ رئيس البلاد بهذه السرعة، وما ان انتهت المقطوعة، وقف العازف امام النعش وانحنى اليه، قبل ان يحمله الحرس الى سيارة سوداء كبيرة، انطلقت مع كتيبة خيالةِ حرس الشرف الى مثواه الاخير، وضجت ساحة التحرير بالبكاء كما ضجت البلاد التي كانت تشاهد ذلك على التلفزيون..
لقد مات الرئيس ..
هذه صورة مغايرة يمكن تخيلها لما يمكن ان تكون عليه نهاية الحاكم من تشريف وحزن وافتقاد وتقديس، ان كان قد حكم، فعدل، فأمن، فمات.
#رسلي_المالكي
18 نعيم 3 هجري
18 حزيران 2018 ميلادي
القراءات 765 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 78913

حاليا يوجد 3 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions