الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع
حَرب والحّلاج وقيصرية الحنش
في كتابه « تصوف أهل بغداد» نطَّلع على الوجه الآخر لطارق حرب الخبير القانوني والباحث التراثي الذي فقدناه بغتة فجر الاربعاء 2/2/2022 بعد أن ملأ الشاشات وشغل الناس في سنواته الأخيرة بتحليلاته وشروحاته الدستورية والقانونية، واطلالاته الفضائية المثيرة التي كانت تعجب البعض ولا تعجب البعض الآخر، ففي هذا الكتاب الذي صدر قبل غيابه بثمان سنوات تظهر شخصية الباحث المنهمك في موضوع بحثه، بل المحب والعاشق له إلى الحد الذي يسمو به إلى روحانية التصوف، وإلى أشياء من الزهد قد لا تبدو ظاهرة على حياته لكنها تغطس في اعماق نفسه، يحس بها من يقترب منه ويلمسها في تواضعه وبساطته وصراحته واريحيته، وفي صوته الذي كان يلعلع أيام الجمع في شارع المتنبي قرب باب مقهى الشابندر، وعند قيصرية الحنش حيث كرسيه الأثير ومنضدته، يجلس بقامته الضخمة وصلعته اللامعة مثل راهب منشغل بقرطاسه تارة، ومتأملاً المارة والحياة تارة أخرى، أو متحدثاً لقناة فضائية تمني النفس بالحصول على تصريح من تصريحاته النارية التي يطلقها صلياً لا مفرداً، وينام ملء جفونه عن شواردها، ويسهر الخلق جَرّاها ويختصم!.
يكتب حرب عن التكايا والربط والزوايا الصوفية في بغداد، وفي كركوك انموذجاً للتكايا الصوفية في العراق، ويتحدث عن الشطحات والتجليات الصوفية، ويعرج على تطور الفكر الصوفي واتجاهات التصوف في القرنين الثالث والرابع الهجريين متمثلة في الشيخ معروف الكرخي وأبو سليمان الداراني وأبو القاسم الجنيد، ومتصوفة القرنين اللاحقين الخامس والسادس القشيري والهروي، ثم الزهد في البصرة الذي مهد للتصوف، منتقلاً بعد ذلك إلى الطرق الصوفية، وإلى الطريقة القادرية التي تعد أول طريقة صوفية نشأت في بغداد، والطريقة الرفاعية والطريقة السهروردية، والطريقة البكداشية التي نشأت في تركيا لكنها انتقلت إلى العراق وكانت لها تكايا في سوق الهرج والكاظمية والجعيفر، وفي الموصل وتلعفر، ويحصي أسماء التكايا القادرية وأماكنها في بغداد والسليمانية وأربيل ودهوك وكركوك وتلعفر وغيرها من المدن، والتكايا الرفاعية في بغداد وأربيل وسلمان باك وشهربان ومندلي وسامراء وتكريت وكركوك وخانقين وجلولاء والخالص وبلد، والطريقة الحيدرية التي ظهرت جنوب مدينة مشهد في ايران. ويشير إلى الطريقة القلندرية التي ظهرت في تركيا قبل البكداشية. ويواصل البحث في الطريقة المولوية وشيخها جلال الدين الرومي، والطريقة الخالدية وعلاقة الدرويش بالشيخ في هذه الطريقة، ثم يخصص صفحات للطريقة الكسنزانية وطقوسها والبيعة أو العهد ومكانة الشيخ فيها، يتبعها ببحث عن الطريقة النقشبندية ومقامات التصوف فيها وأحوالها من قبض وبسط ومحو واثبات وصحو وسكر وغيبة وشهود وشوق وأنس ووجد وجلال وجمال وكمال وغيرها من الأحوال المعروفة في عموم الطرق الصوفية. ويخصص فصلاً للحّلاج الذي يصفه بأنه امام أهل الخرقة وشيخ أهل التصوف، متحدثاً عن آخر أقواله ومحاكمته، والمناظرة التي جرت حول الحّلاج بين المحامي عباس العزاوي والمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون في دير الآباء الكرمليين ببغداد يوم السابع والعشرين من نيسان عام 1945 بحضور ومشاركة راعي الدير الأب انستاس الكرملي، وكان طارق حرب رحمه الله معجباً جداً في كتاباته وأحاديثه بتلك المناظرة التاريخية، وطالما حدثني عن تفاصيلها، وعن وجهات النظر المتباينة بين ماسينيون المؤمن بالحلاج وشطحاته، وبين العزاوي المتبحر في الفقه الإسلامي، وهل كان قرار القضاة الذين حكموا بصلب الحّلاج موافقاً للشرع والدين، وكيف يمكن التوفيق بين وحدة الشهود ووحدة الوجود وغير ذلك من الموضوعات المتعلقة بالحّلاج ومحنته وبالفكر الصوفي عموماً.
في كتابه هذا لا يلزم المؤلف نفسه بمنهج أكاديمي تقليدي ولا بخطة علمية محددة، بل يتنقل برشاقة بين موضوعات التصوف وطرقه ومسالكه وشيوخه، ليقدم للقارئ مائدة متنوعة، تبعد عنه الملل الذي قد يحدث في التطرق لمثل هكذا أبحاث متشعبة ومترابطة، لذلك نراه لا يترك شاردة وواردة إلا وأشار اليها ولو بإشارة عابرة، وصولاً إلى خاتمته، القصيدة الصوفية الجامعة لأبي القاسم القشيري التي تحدد أسس الفكر الصوفي المعتدل الذي لا يذهب مذهب غلاة التصوف كالحلاج والبسطامي، ومطلعها: « بحمد الله أفتتح المقالا / وقد جَلَّت أياديه تعالى / وأعقب بالصلاة على المعلَّى / على كل الورى شرفاً وحالا «.
رحل حرب عن 77 عاماً، ومهما اختلف المختلفون حوله، فإن الرجل قد ترك ذكراه الطيبة في قلوب الأكثرية من الناس، ومنهم أولئك الذين يلتقونه ويتجمعون حوله صباحات أيام الجمع عند مدخل القيصرية وهو يتلاطف معهم، أو يعلن رأياً يصل صداه إلى نهاية شارع المتنبي. وقد كانت مبادرة نقابة المحامين العراقيين بإقامة تمثال نصفي للفقيد بصفته محامياً وخبيراً قانونياً مبادرة وفاء طيبة، غير أن القيصرية هي أيضاً المكان الأنسب لوضع هكذا تمثال بصفته انساناً ترك فراغاً موحشاً لمحبيه، وباحثاً تراثياً مجتهداً، وعاشقاً محباً لبغداد وناسها، ومنهم أهل التصوف.
أنزل طارق حرب الدستور من برجه الحصين، وأنزل القوانين من منصات المحاكم وأبراج القضاء، وجعلهما يجلسان مع الناس في قيصرية الحنش!.
يكتب حرب عن التكايا والربط والزوايا الصوفية في بغداد، وفي كركوك انموذجاً للتكايا الصوفية في العراق، ويتحدث عن الشطحات والتجليات الصوفية، ويعرج على تطور الفكر الصوفي واتجاهات التصوف في القرنين الثالث والرابع الهجريين متمثلة في الشيخ معروف الكرخي وأبو سليمان الداراني وأبو القاسم الجنيد، ومتصوفة القرنين اللاحقين الخامس والسادس القشيري والهروي، ثم الزهد في البصرة الذي مهد للتصوف، منتقلاً بعد ذلك إلى الطرق الصوفية، وإلى الطريقة القادرية التي تعد أول طريقة صوفية نشأت في بغداد، والطريقة الرفاعية والطريقة السهروردية، والطريقة البكداشية التي نشأت في تركيا لكنها انتقلت إلى العراق وكانت لها تكايا في سوق الهرج والكاظمية والجعيفر، وفي الموصل وتلعفر، ويحصي أسماء التكايا القادرية وأماكنها في بغداد والسليمانية وأربيل ودهوك وكركوك وتلعفر وغيرها من المدن، والتكايا الرفاعية في بغداد وأربيل وسلمان باك وشهربان ومندلي وسامراء وتكريت وكركوك وخانقين وجلولاء والخالص وبلد، والطريقة الحيدرية التي ظهرت جنوب مدينة مشهد في ايران. ويشير إلى الطريقة القلندرية التي ظهرت في تركيا قبل البكداشية. ويواصل البحث في الطريقة المولوية وشيخها جلال الدين الرومي، والطريقة الخالدية وعلاقة الدرويش بالشيخ في هذه الطريقة، ثم يخصص صفحات للطريقة الكسنزانية وطقوسها والبيعة أو العهد ومكانة الشيخ فيها، يتبعها ببحث عن الطريقة النقشبندية ومقامات التصوف فيها وأحوالها من قبض وبسط ومحو واثبات وصحو وسكر وغيبة وشهود وشوق وأنس ووجد وجلال وجمال وكمال وغيرها من الأحوال المعروفة في عموم الطرق الصوفية. ويخصص فصلاً للحّلاج الذي يصفه بأنه امام أهل الخرقة وشيخ أهل التصوف، متحدثاً عن آخر أقواله ومحاكمته، والمناظرة التي جرت حول الحّلاج بين المحامي عباس العزاوي والمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون في دير الآباء الكرمليين ببغداد يوم السابع والعشرين من نيسان عام 1945 بحضور ومشاركة راعي الدير الأب انستاس الكرملي، وكان طارق حرب رحمه الله معجباً جداً في كتاباته وأحاديثه بتلك المناظرة التاريخية، وطالما حدثني عن تفاصيلها، وعن وجهات النظر المتباينة بين ماسينيون المؤمن بالحلاج وشطحاته، وبين العزاوي المتبحر في الفقه الإسلامي، وهل كان قرار القضاة الذين حكموا بصلب الحّلاج موافقاً للشرع والدين، وكيف يمكن التوفيق بين وحدة الشهود ووحدة الوجود وغير ذلك من الموضوعات المتعلقة بالحّلاج ومحنته وبالفكر الصوفي عموماً.
في كتابه هذا لا يلزم المؤلف نفسه بمنهج أكاديمي تقليدي ولا بخطة علمية محددة، بل يتنقل برشاقة بين موضوعات التصوف وطرقه ومسالكه وشيوخه، ليقدم للقارئ مائدة متنوعة، تبعد عنه الملل الذي قد يحدث في التطرق لمثل هكذا أبحاث متشعبة ومترابطة، لذلك نراه لا يترك شاردة وواردة إلا وأشار اليها ولو بإشارة عابرة، وصولاً إلى خاتمته، القصيدة الصوفية الجامعة لأبي القاسم القشيري التي تحدد أسس الفكر الصوفي المعتدل الذي لا يذهب مذهب غلاة التصوف كالحلاج والبسطامي، ومطلعها: « بحمد الله أفتتح المقالا / وقد جَلَّت أياديه تعالى / وأعقب بالصلاة على المعلَّى / على كل الورى شرفاً وحالا «.
رحل حرب عن 77 عاماً، ومهما اختلف المختلفون حوله، فإن الرجل قد ترك ذكراه الطيبة في قلوب الأكثرية من الناس، ومنهم أولئك الذين يلتقونه ويتجمعون حوله صباحات أيام الجمع عند مدخل القيصرية وهو يتلاطف معهم، أو يعلن رأياً يصل صداه إلى نهاية شارع المتنبي. وقد كانت مبادرة نقابة المحامين العراقيين بإقامة تمثال نصفي للفقيد بصفته محامياً وخبيراً قانونياً مبادرة وفاء طيبة، غير أن القيصرية هي أيضاً المكان الأنسب لوضع هكذا تمثال بصفته انساناً ترك فراغاً موحشاً لمحبيه، وباحثاً تراثياً مجتهداً، وعاشقاً محباً لبغداد وناسها، ومنهم أهل التصوف.
أنزل طارق حرب الدستور من برجه الحصين، وأنزل القوانين من منصات المحاكم وأبراج القضاء، وجعلهما يجلسان مع الناس في قيصرية الحنش!.
تم نشرها في -
الدكتور طه جزاع
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.