الفلسفة التي تمشي على الأرض
المؤلف : د . طه جزاع
تلبية لدعوة كريمة من مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون، حضرتُ اليومين الماضيين معرض أربيل الدولي للكتاب الذي تنظمه المؤسسة بالتعاون مع وزارة الثقافة والشباب في حكومة أقليم كردستان العراق واتحاد الأدباء، ولما كانت هذه الدورة الخامسة عشر للكتاب تقام تحت شعار «حاضر وحضارة» فقد كان للفلسفة حصة مثلما كانت لها حصص في الدورات السابقة، وهذا ما يحسب للقائمين على اعداد المنهاج الثقافي للمعرض الذين يؤمنون بأن الفلسفة يمكن أن تدخل في التداول اليومي، وان لا تبقى حبيسة الأبراج الفكرية العالية، شأنها في ذلك شأن النجوم التي نراها عن بعد ولا نلمسها.
والسؤال عن دور الفلسفة في حياة الإنسان اليومية ليس جديداً، لكنه متجدد على الدوام، ويقال عادة في هذا السياق أن سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، أي أنزلها من سماء التصورات الذهنية المجردة والميتافيزيقا والعقل المحض، إلى الإنسان الذي جعله محور التفكير الفلسفي بمقولته الشهيرة « اعرف نفسك أولاً». وقبل ذلك كانت الفلسفة وهي في بداياتها منهمكة في البحث عن المادة الأولى، وعن عناصر الطبيعة مثل الماء والتراب والهواء والنار، وأي منها أو غيرها يمكن أن يكون أصلاً لنشوء الكون، أما الفيلسوف الأول طاليس فقد تعرض في زمانه إلى لوم الناس وسخريتهم بسبب انشغاله التام بالفلسفة على الرغم من اهتمامه بالرياضيات والفلك والهندسة العملية، فتحداهم بشراء معاصر الزيتون كلها في مدينته ملطية لأنه تنبأ بأن محصول الزيتون سيكون وفيراً في ذلك الموسم، وفعلاً تحقق ما تنبأ به فقام بتأجيرها لهم بأجور مرتفعة، لم يكن ينوي الربح المادي لكنه رغب بتلقينهم درساً مفاده أن الفيلسوف قادر على العمل وكسب الأموال ومنافسة التجار لو شاء ذلك، ومع ذلك فإنه لم ينجُ لاحقاً من تهكم أفلاطون الذي يذكر أن طاليس مات وهو يتأمل السماء فلم يدرك موضع قدمه وسقط في بئر اعترضت طريقه مما أثار شفقة المارة وهزلهم، ولذلك كان سقراط حريصاً على التجوال في الشوارع والأسواق ليحاور الناس، ويستخرج منهم المعرفة الكامنة في عقولهم مرةً بتوليد الأفكار مع البسطاء منهم الذين لايدَّعون المعرفة، وبالتهكم مرة أخرى مع المتعالمين الذين يدَّعون المعرفة ولا يقرون بجهلهم فيكشف عن زيفهم ويعرضهم للاستهزاء والإحراج أمام الناس، وبسب طريقة حياته هذه فقد أصبح سقراط هدفاً لسخرية الكاتب الاغريقي أريستوفانيس في مسرحياته الهزلية مثل «السحب» و «الطيور» فهو يُشَّبِه مشيته باختيال بعض الطيور المائية، كما يجعله في مسرحية السحب معلقاً في سلة بالهواء لكي يتنفس أكبر قدر منه، وفي ذلك إشارة ساخرة إلى أن سقراط من الفلاسفة الطبيعيين الذين يرون أن الهواء هو مصدر التفكير .
هذا بعض ما قيل في ندوة الفلسفة في التداول اليومي التي أقيمت مساء أمس الأول السبت 11 آذار 2023 وشاركنا فيها مع الزميل علي حسين، وقدم لها ببراعة الكاتب والناقد كه يلان محمد، وكان جلياً منذ البدء أننا لسنا بحاجة إلى بذل مجهود كبير لإقناع المتلقين بأطروحتنا التي ترتكز على أهمية الفلسفة في حياتنا اليومية، فمثل هذا الجهد كان ضرورياً في تلك الأزمان التي تعرضت فيها الفلسفة لحملات التشويه والاتهام بالإلحاد والزندقة والهرطقة والسفسطة والتضليل، والتي كان يضطر فيها الفلاسفة للدفاع عن أنفسهم وتبرئة المنطق من التزندق رداً على الاتهام الذي تمت صياغته من المناوئين ومفاده أن « من تمنطق فقد تزندق» ولا سيما في القضايا الإلهية، والتي أحرقت بموجبها كتب الفلاسفة، غير أن الفلسفة اليوم لا تجد نفسها في صراع لا مع الدين، ولا مع العلم، ذلك أن مثل هكذا صراعات قد ولى زمانها بعد أن أصبح للفلسفة ميادينها العملية في مباحث القانون والسياسة والاجتماع والتربية والتعليم العالي والأخلاق والاقتصاد وغيرها، وما عادت معلقة في أبراج التأمل المجرد، وابتعدت بمسافة مناسبة عن الخوض في الموضوعات الجدلية التي طالما خرجت منها مثخنة الجراح بسبب خفوت صوتها وضعف حيلتها مع قوة حجتها وسلامة منطقها، أمام من يملكون النفوذ والقوة وسلطة خداع البسطاء من الناس الذين يسهل اقناعهم بالغيبيات والهرطقة والوعود الجاهزة والخطب السفسطائية الرنانة التي تقف الفلسفة أمامها عاجزة مجردة من أي سلاح، غير سلاح العقل والمنطق، وهو أضعف أنواع الأسلحة في مجتمعات بشرية «عاقلة» لكنها تنكر العقل والمنطق في الكثير مما يواجهها من مشكلات وقضايا تمس حاضرها ومستقبلها .
والفلسفة التي تمشي مع الكائن البشري على الأرض، وتتفهم همومه ومشاغله ومخاوفه، وتبحث عن حلول واقعية لمشاكله المتراكمة وأزماته المتجددة، هي الأبقى، لأنها فلسفة الحياة التي يسمو بها العقل، وتزدهر بها البشرية، ويرتقي بها الإنسان.
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.