مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

إنعام ولورنا

قيم هذه المقالة
(1 Vote)
Print Friendly, PDF & Email
الكتاب : الاعمدة
المؤلف : د . طه جزاع

 

هل كانت لورنا وقد شارفت على السبعين، وهي شبه معتكفة في بيت ريفي وسط هضاب لانوفر بمقاطعة ويلز الإنجليزية، تتوقع بأن صحفية عراقية مغتربة ستتصل بها من باريس، وتضرب لها موعداً لزيارتها، وفي جعبتها أسئلة كثيرة تستفز ذاكرتها وتعيد إليها ذكريات ومسرات وأحزانا بعيدة جداً عن حياتها في بغداد؟ هذه المدينة الغريبة التي وصلتها في الساعة الثانية بعد الظهر من أحد أيام أيلول 1950 لتُزف بعد أسبوع من وصولها إلى الفنان العراقي الشاب الذي التقته أثناء دراسته في بلدها، ويتغير اسمها منذ ذلك اليوم من لورنا هيلز إلى لورنا سليم.
في كتابها الموسوم « لورنا .. سنواتها مع جواد سليم» الذي انتهت منه خلال آب 1997 في باريس، تُقدم إنعام كجه جي درساً عملياً مبكراً في الصحافة الاستقصائية التي كثر الحديث عنها في العقود الأخيرة، فمنذ أن التقت لورنا اللقاء الأول في لندن ربيع 1989 سمعت منها ما يفتح امامها أبوابا مفضية الى ما هو ابعد وأوسع من مقابلة صحفية مثيرة، لذلك عزمت، بعد مضي ما يقرب من سبع سنوات على ذلك اللقاء، أن تبحث مجدداً عن لورنا سليم، وقد حصلت على رقم هاتفها، وبمساعدة البيت البريطاني في باريس حجزت في أقرب نِزِل إليها: و»تَوكلتُ» تقول إنعام: «وجدتها تقيم في بيت ريفي يشرف على مربع أخضر ساحر ترعى فيه الأغنام، لا جيران قريبين منها، ولا مواصلات عامة تقود إلى مكانها، والفوز بسيارة الأجرة الوحيدة العاملة في المنطقة يحتاج إلى قدرة قادر».
من هذا اللقاء الغريب الذي ما كان له أن يكون إلا مع صحفية استقصائية عنيدة، بلغت هدفها بعد رحلة بالطائرة والقطار والسيارة، تُبعث لورنا سليم إلى الحياة من جديد في كتاب جميل، بل هو من أجمل الكتب والروايات التي كتبتها إنعام، وربما هو الأحب إلى قلبها، فقصة إنجازه وحدها تمثل حكاية، والمائة والأربعين سؤالاً التي تسلحت بها لهذه المواجهة مع المرأة التي عاشت في البدء حياة فتاة انكليزية عادية، قبل أن تدخل الاثارة حياتها منذ لقائها الأول بجواد سليم في شباط 1946 وكانا طالبين في مدرسة الفنانين الموهوبين «سليد سكول» اللندنية، تلك الأسئلة وأجوبتها، تنقلنا إلى أجواء بغداد القديمة، وفيها الكثير من المفارقات والمصادفات والحكايات الممتعة عن الرسامين الكبار في تلك الحقبة، وعن لورنا نفسها التي وصلت إلى مطار بغداد القديم في يوم قائظ، لكنها لم تجد أحداً بانتظارها، ولا حتى العريس نفسه، ولذلك حكاية ترتبط بوصول نوري السعيد على الطائرة نفسها عائداً من لندن بعد استدعائه لتشكيل وزارة جديدة!.
أحبت لورنا بغداد، وتآلفت معها: «وكانت من الأوائل الذين رسموا نساء بغداد الشعبيات بأثوابهن ذات الألوان المشرقة والنقوش المشَّجرة، وبالحلي الذهبية التي تتباهى بها كل سيدة وفتاة».. وتمضي إنعام في سبر أغوار حياة لورنا الشخصية وما شهدته من حوادث وتقلبات منذ وفاة جواد سليم في نهار 23 كانون الثاني 1961 وهو دون الثانية والأربعين من العمر، لتضطر من أجل الحماية وحقوق ارث ابنتيها زينب ومريم للزواج من المحامي الذي وَكَلته من أجل ذلك، ولترزق بابنتها الثالثة ريا التي حملت في النهاية اسم جواد سليم أيضاً في حكاية مشوقة أخرى، بعد فشل زواج لورنا الثاني، وقرارها مغادرة بغداد، والعودة إلى شفيلد مسقط رأسها في آخر المطاف.
إنعام كجه جي، جامعة «الطشّار» العراقي، في كل رواياتها «سواقي القلوب» و «الحفيدة الأميركية» و «النبيذة « و «طشّاري» التي اتخذت إنعام من اسم بطلتها وردية إسكندر الشماس اسماً مرادفاً لها، وكذلك في «لورنا» وحتى في فيلمها التوثيقي عن الدكتورة نزيهة الدليمي تعمل على اصطياد الشخصيات العراقية التي «تطشّرت» في مختلف أرجاء المعمورة لتعيد سبكها وجمعها ببراعة صائغ ماهر، وخيال روائي مدهش.
ربما هي تعبر عن نفسها، عن هواجسها القلقة وحزنها العميق، وعن رغبتها الدفينة في أن تتلمس وجه الوطن الذي لا يغيب عن بالها لحظة واحدة، بأخباره وجنونه وفنونه وثقافته وغنائه وطعامه، وقد تراكمت عليها سنين باريس الباردة الطويلة بلا أمل في العودة من طشّارها الشخصي.

القراءات 80 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 66769

حاليا يوجد 2 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions