‏حدثنا عوانة ابن الأشعث قال:

كنتُ نائماً على سطحِ داري في كرخِ بغداد، وقد تبلّج وهجُ الفجرُ من ليلِ الرماد، فصحوتُ على صوتِ رجلٍ يصيحُ في العباد، باعثاً الناسَ مِن الرِقاد، دافعاً عربةً من الحديد، عارضاً شراء القديمِ لا الجديد، فكان يقول:

مَن عندهُ في الدارِ خُبزاً يابساً..
لدفعتُ ديناراً بخبزٍ يابسِ..
من عندهُ (شِيَشاً) وبعضُ نخالةٍ..
للبيعِ أشريها ببعضِ مَفالِسِ..
من عندهُ غرضٌ عتيقٌ يُعطِني..
بدّلتُهُ بمسابحٍ ومحابسِ..

يقولُ عوانة: فصحوتُ من رقادي، ونظرتُ من السطحِ في حالكِ السوادِ، ثم ناشدتُهُ أن يقفَ ففعل، وتوقفَ جرخُ العربة الربَل، فنزلتُ له فُضولا، وبخطواتي له عَجولا، ثم سلّمتُ فأجاب، وكان متنقباً بنقاب، قلت:

ماذا تربحُ فيما تبيعُ وتشتري؟
قال: آخذُ الخبزَ اليابسْ، فأبتاعهُ ببعض التفالسْ، ثم أبيعُهُ لرعاة الشاة فيطعموه لشياههم، فبي أشبعَ الله الشياه، وأعز بالرزق الجِباه.

قلت: فما تملُكُ من صنعتِكَ هذه؟
قال: بكرخِ بغدادَ داران، وبرصافتها داران، وعلى نهرها داران، وعند جسرها داران.

فاستعجبتُ أمره، واستعظمتُ سره، قلت: وكيفَ ذاك؟

قال: أما حدثَت في هذي البلادِ الأحوالُ العِظام؟ ووقعَتْ الأهوالُ الجِسام؟ أما فسدَ النظام؟ وحل الإنحطاطُ والظلام؟

قلت: فبلى!

قال: أوما انقلبَت الأحوال، وتغيّرت الآجال، وتباينت الأطوال، وتساوى الراعي بالخيّال؟

قلت: فبلى!

قال: أوما رأسَ سقطُ المتاع، وتسيّد الرُعاع، وتبدّلت الطِباع، واستأسدت على الأسودِ الضباع؟

قلت: فبلى!

قال: أوما استغنى خاليَ العقلِ والوِفاض، وسكنَ الوضيعونَ جنانَ الرياض، وهجرَ الدارَ إبنُها وفاض، وشاب رأسُ العالِمِ وباض؟

يقولُ عوانة: فقلت: قبّحك الله فأخبرني!

فأماطَ اللثامَ عن وجهه، وبان لي كُنهه، وإذا بهِ والله شيخي #حطامة_ابن_الأغبر البغدادي، ولما سألتهُ عن ذاك قال:

هذا زمانُ صاحبِ العَتيقِ..
من شغلةِ النُخالِ والدقيقِ..
وعُسرِ فَقرٍ مُدقَعٍ وضيقِ..
من عرباتِ الفُكَرِ في الطريقِ..
للبسِ خيرِ الدُرِّ والعقيقِ..
فافسِد تذوقُ أطيبَ الرحيقِ..

ثم دفع عربتهُ وتركني ومضى.

لبديع الزمان
#رسلي_المالكي

___________________________________________