بقي كتاب "هيت في إطارها القديم والحديث" الذي أصدره رشاد الخطيب الهيتي في العام 1966 واحداً من المصادر الموثوقة لسنوات طويلة ، وربما المصدر الوحيد عن هذه المدينة الموغلة في القِدم ، على الرغم من بساطته وطباعته المتواضعة في جزئين متعاقبين ، ومرور أكثر من نصف قرن على صدوره ونشره وتوزيعه ، حتى بات من الكتب التي يصعب الحصول على نسخة سالمة منها . ومن الانصاف القول أن هناك محاولات وبحوث وكتابات ومقالات متنوعة نشرت عن المدينة تتفاوت في مستواها وقيمتها التوثيقية - قبل أن يتصدى ابن هيت الدكتور قحطان محمد صالح الهيتي لإصدار كتابه الموسوعي الجديد الفخم بمادته وسعة معلوماته ومنهجيته وطباعته الفاخرة " هيت مدينة ورجال " - منها على سبيل المثال لا الحصر: " هيت من أقدم العصور حتى الاحتلال البريطاني " للمؤرخ عماد عبد السلام رؤوف ، و" هيت في ظلال الماضي " و " ملامح المجتمع الهيتي " لعبد الرحمن جمعة الهيتي ، و" شذرات من تراث هيت " لنجاح ساسون الهيتي ، فضلاً عن عدد من الرسائل والاطاريح والبحوث العلمية التي اتخذت من هيت موضوعاً من النواحي التاريخية والجغرافية وغير ذلك من اهتمامات .
الكردي حمه صالح الذي صار هيتياً
قحطان محمد صالح الهيتي صاحب الموسوعة التاريخية التي صدرت مؤخراً عن دار الرافدين ، ولد في مدينة هيت في العام 1949 من أبوين كرديين ، حل والده حمه صالح " محمد صالح " في هيت قادماً من كويسنجق في منتصف العقد الأول من القرن الماضي ، وتزوج فيها ، وأتخذ أبناؤه وأحفاده من هيت لقباً ، وكان قحطان ضمن أول دفعة طلابية تخرجت في الفرع العلمي من ثانوية هيت للبنين منتصف الستينيات ، وهو رجل طموح متعدد المواهب والاهتمامات ، تخرج من كلية التجارة بجامعة بغداد بداية السبعينيات ، لكنه سرعان ما عاد بعد ربع قرن ليواصل تحصيله العلمي في ميادين أخرى أقرب إلى نفسه ورغبته ، فدرس في قسم القانون بكلية المعارف الجامعة ليتخرج بدرجة ممتاز وكان الأول على دفعته ، ثم تقدم للدراسة في معهد التاريخ العربي والتراث العالمي ليحصل على شهادة الماجستير ، ويحث الخطى باتجاه الحصول على الدكتوراه في التراث العلمي العربي في العام 2008 ، فضلاً عن ذلك فهو محامٍ متمرس قدير تعرفه قاعات المحاكم ، وشاعر ينظم القوافي في المهرجانات الشعرية منذ العام 1965 ، فلا تستغرب أن يكون الهيتي عضواً في نقابات واتحادات لا يجمعها جامع إلا في شخصيته الفريدة ، فهو عضو في اتحاد الادباء والكتاب ، واتحاد المؤرخين العرب ، ونقابة المحاسبين والمدققين ، وفي نقابة المحامين ، ونقابة المعلمين . كما أنه من الشخصيات اليسارية المنفتحة ، ربى اسرته وأولاده تربية مدنية حرة ، حتى اصبحوا أعضاء نافعين في المجتمع ، بل هم مصدر فخر للمدينة بعلمهم وتربيتهم وخلقهم الرفيع ، معتزين بقوميتهم اعتزازهم بمدينتهم التي حملوا اسمها لقباً لهم ، فهي دار سُعدى التي قال فيها الهيتي :
يا دارَ سُعدى اعزُّ الناس منزلةً أهلي الأُلى شيّدوا فوق العُلا عمدا
ولأجل دار سُعدى التي اذا ما البعد غالبه " غالبتهُ باشتياقي أنْ أراكِ غَدا " كرس قحطان محمد صالح الهيتي ، كل وقته واهتمامه لهذه المعشوقة العذراء الحوراء، التي عشقها بكل جوانحه ، وبذل من أجلها كل غالٍ ونفيس ، ووقف مع أهلها أهله في أيام الشدة والموت والمحن ، حتى اذا ما عادت الحياة إلى طبيعتها ، وأنجلت غربان الشر والظلام ، واكتملت عدة كتابه الموسوعي ، تمسك بحرصه المعروف على أن ينضد الكتاب كاملاً على حاسبته الشخصية ، ويصممه بنفسه ، ويختار صورة غلافه من أعمال الفنان عمار شاكر عون الدين ، وينتقي الصور والوثائق ليرسل الكتاب جاهزاً إلى دار النشر ، ويختار له أجود أنواع الورق الصقيل ، وأفخر غلاف يضم بين دفتيه أكثر من 700 صفحة من القطع الكبير ، متحملاً دفع تكلفة طبعه العالية على حسابه الخاص ، بكل سرور وارتياح ، فقد تحقق حلم حياته تجاه مدينته .
" أم المعلمات " و " أحميد الأعضب "
يقع كتاب " هيت مدينة ورجال " الذي قدم له الأستاذ الدكتور شاكر محمود عبد المنعم الهيتي ، في جزئين ، الأول مخصص للمدينة ، موضعها وموقعها ونشأتها واسمها ، ثم هيت عبر العصور القديمة والعصور الإسلامية وفي العهدين الملكي والجمهوري ، وبعد الاحتلال الأمريكي سنة 2003 ، وفي هذا الجزء فصول ومباحث أخرى عن المعالم الأثرية في هيت ، ولهجة أهل هيت ، وتاريخ الحركة السياسية والحزبية في المدينة ، وهو من الفصول الممتعة والمثيرة الذي يتضمن معلومات تفصيلية مهمة عن تلك الحركات والأحزاب وقادتها واعضائها . فيما خصص الجزء الثاني لأكثر من سبعين اسماً من رجال هيت في مختلف الأوساط الاجتماعية والأكاديمية والعلمية والأدبية والثقافية ، ومن بين هؤلاء امرأة واحدة هي " أم المعلمات " عفيفة حميد عبد العزيز التي لم تولد في هيت ، انما في رأس الحواش في الأعظمية العام 1920 أو 1918 ، جاءت إلى هيت معلمة ترافقها أمها وأختها : " على أمل أن تقضي فيها الخدمة المقررة لتنقل إلى مسقط رأسها بغداد ، ولكنها بقيت حتى وفاتها ، وهكذا كتب لهذه الصبية البغدادية العفيفة ، التي لم تبلغ الثامنة عشرة من عمرها ، أن تسكن هيت ، وتستقر بها حتى وفاتها " وهي ابنة خالة المؤرخ الراحل الدكتور حسين أمين . وفي الجزء الثاني ايضاً رجالٌ وحكايات عن الشيوخ والخطباء والفلاسفة والأدباء والشباب المبدعين وأبرز مدراء المدارس والمدرسين " المدير متعب عبد الكريم ، والمدرس صابر جميل " ، وأوائل الهيتيين من سفراء ورؤساء جامعات وضباط الجيش ومعلمين ومدراء نواحي وأطباء وصيدلانيين وحكام وقضاة ومدعين عامين . ولا ينسى الهيتي ان يذكر حكايات الطيبين والفقراء ، ويبجلهم بالقول " فقراء لكن عظماء " ومثالهم عبد الحميد عدوان السكران العامري المعروف بـ " أحميد الأعضب " الذكي الماهر في عمل الكثير من الأدوات البسيطة ومنها مكاحل العيون : " كان احميد محباً لحماره كثيراً ، وراعياً له ، لأن له مخصصات إطعام تصرف له شهرياً مع راتبه ، وكثيراً ما كان يضرب به المثل عندما يريد أن ينتقد شخصاً غير مخلص في عمله فيقول : حماري موظف مخلص وأنت لا تعرف الإخلاص . ومن الطريف أن عقوبة قطع الراتب ، أو حسم أجور أيام الغياب كانت تستقطع من العامل ، ولا تستقطع من مخصصات الحمار ، فهو مصون غير مسؤول " ! . في ختام الكتاب يتحدث المؤلف عن دخول الكهرباء إلى هيت بداية اربعينيات القرن الماضي ، كما يخصص بضع صفحات لعادات وطقوس شعبية هيتية ، وتحت عنوان " هيت بين وثيقتين " يتطرق إلى الوثيقة الأولى التي وقعها وجهاء هيت بعد وقوعها تحت الاحتلال البريطاني في آذار 1918 وللوثيقة الثانية التي وقعها أحفاد أولئك الوجهاء بعد 98 عاماً بعد وقوع المدينة تحت سطوة داعش والسراق والحرامية ، وكلا الوثيقتين تثبتان للناس : " أن مدينة هيت هي مدينة المحبة والألفة والاتفاق والوحدة والسلام . وان أهلها عاشقون لها ومحبون لبعضهم " . ووفاء للدكتور قحطان محمد صالح الهيتي ، فقد كتب ابن هيت هندي حامد الهيتي كلمة في نهاية الكتاب تحت عنوان " السارية التي رفعت الأعلام " تحدث فيها عن نسب المؤلف ونشأته وسيرته وتحصيله العلمي ومؤلفاته ونشاطاته الثقافية .
ومما حرص عليه الدكتور قحطان الهيتي ، أن يضع بيتاً من الشعر في أعلى كل صفحة من صفحات كتابه ، وهو من معلقته عن هيت " دار سُعدى " يقول فيه :
أنا الهيتي ابن الشمس ما ولدت حواء توأمه من بعد أن ولدا
مرفق : صورتان غلاف الكتاب والمؤلف