عندما تهبط طائرتك في مطار بغداد، ستستقل سيارة الى مركز المدينة، ستسير على طريق المطار، فتبدأ أولى صفحات العاصمة بالانقلاب..
جامع ام الطبول..
فالعاصمة تستقبلك بالاستفتاح بسم الله، وتريك منائرها الكبيرة وقبتها المفصلة، داعيةً الله أن يحفظك على أرضها وغير أرضها، مبتهلةً بمنائرها وقبابها أن ترى خيرها، ويُكفى عنك شر الأشرار..
ما إن تستمر، حتى تريك ساعتها، ساعة بغداد، لتقول لك: إضبط ساعتك حسب التوقيت المحلي لي، فهذا هو الوقت عندي الآن، مواعيدك، صلاتك، فجرك وضحاك، كله معلقٌ على أميالِ ساعتي هذه..
تسير لمسافةٍ أخرى، فتلتقيك سيوف القادسية العملاقة، لتقول لك: أنت الآن بحمايتي، وتحت حدود سيوفي، أمسك بها بقبضةٍ لا تسمحُ لها بالإفلات، وأحز الرقاب من أجلك..
مسافةٌ أخرى، وتشاهد نصب الجندي المجهول، لتدعوك للترحم على من حماها ومات من أجلها، فهنا ترسُ الفارس الضائع ورمحه، تركها بعد إن جاد بنفسه في سبيلها راضياً..
وإن سرت أكثر، ستمر من تحت بوابة القدس، لتذكرك بغداد بعروبتها وأصالتها، حتى تأخذك إلى بوابة المنطقة الرئاسية من جهة جسر الجمهورية، بعد إن تمر بك بقصر الزقورة وسواه، وتصل بك إلى آخر المباني الهامة: وزارة التخطيط..
تغادر البوابة، فيلتقيك جسر الجمهورية، بما يحمل من ذكرياتٍ طيبة ومؤلمة، فهذا الجسر الذي هوى بضربة جوية عام ٩١، وأعاد العراقيون له كرامته واستحقاقه بتسع شهور، وعليه هوت أجساد شهداء ثورة تشرين، وبقيت على قوسه عبارة تمجيد العراقيين ممن أعانوه على مجده: إنكم بحق أبطال!..
تعبر على الجسر، فيفتتح أمامك كتابُ بغداد على مصراعيه، ليكون دجلة الخالد حد الكتاب بين الصفحة والصفحة، بين الكرخ والرصافة، ليحكي لك عن ملايين البشر الذي عاشوا على ضفافه منذ قرر أبو جعفر المنصور العباسي وضع أساس عاصمته هنا حتى هذا اليوم، ويغازل عاشق المليحة مليحته ببيت شعره:
عيون المها بين الرصافةِ والجسرِ..
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري..
وأهجنَ بي الشوقَ الكبيرَ ولم أكن..
سلوتُ، ولكن زدنِ جمراً على جمري..
وما إن تصل إلى قمة سنام الجسر حتى يطل أمامك نصبُ جواد سليم وهو يحدثك عن الحرية، بعد أن أريد لها أن تغيب عن هذه البلاد طويلاً..
تستمرَ بالسير، فيشمخ أمامكَ صرحٌ هائل، يغير شكله مع كل مئةِ مترٍ تشقها، ليريك مابين جناحيه، علمٌ عراقيٌ يتصاعد بين نصفي قبة، ويدعوك لقراءة الفاتحة كلما رف جناحاه حول علمه، تقديساً لشهداء العراق، فتدرك أنك أمام واحد من أجمل صروح بغداد وأقدسها، نصب الشهيد..
هكذا هي، بلا أبراجٍ شامخة أو بناءٍ متطاول، هكذا بعبائتها العتيقة، كريمةً، جميلةً، قويةً، راسخة..
أهلاً بك إلى إرث بني العباس الخالد..
أهلاً بك إلى بغداد..
هكذا تُعرفك بغداد بنفسها
تم نشرها في -
رسلي المالكي
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.