مقالات مختارة

سياسية, اقتصادية, اجتماعية

الواقعُ وجروحُه في رواية «متعة العمر» لهدى عيد

قيم هذه المقالة
(0 تقييمات)
Print Friendly, PDF & Email

 

في خضم الصراعات السياسية، الداخلية والخارجية، وتأثيراتها على مستقبل البلاد العربية وانعكاساتها السلبية على المجتمع ككل، وعلى العائلة بشكل خاص، تظهر رواية «مُتْعة العمر» للكاتبة اللبنانية هدى عيد (دار الفارابي للنشر والتوزيع ـ 2017) لتسلط الضوء على جملة قضايا تشغل بالَ مجتمعٍ شوهته الحروب، هو مجتمع بيروت، وما أفرزت فيه من جيلٍ تائه، يبحث أفراده عن أنفسهم في واقع مضطرب المجرى، ماكر ومجروح معا، يلتهم كل شيء: ذواتا وأحلاما.
اختارت رواية «مُتْعة العمر» أن تجعل من حكاية الشاب «أدهم» حكايتها الرئيسة، ذلك أنه يمثل نموذجا لجيل أفرغته الحرب الأهلية، وما انجر عنها من اضطرابات سياسية واجتماعية وأخلاقية، من كل استقرار نفسي، فهو يعيش في بيتِ جَديه، بعد واقعة انفصال والديه، ويترنح كامل وقته بين حالتيْن: التمرد على الواقع والانقياد لشروطه، وفي خلال ذلك لا يني يُشعرنا بوحدته وافتقاره إلى أحضان والديْه؛ فالأب منشغل بالبحث عن امرأة تُرضي غروره، والأم مُنصرفة إلى حياتها الثانية في زواج آخر، انتقاما من طليقها.
أدهم ضحية صراعات، هو شخصيةٌ تتعطش إلى الدفء والثقة بالنفس، وقد انعكس ذلك على خلال علاقته بالمحيط. فهو يمثل العامل المحور في الرواية، وبه ترتبط الشخصيات الأخرى من قريب أو بعيد، معظم الأحداث تتعلق به، هو محور حياة جده، وجدته لأبيه، وكذلك جده لأمه، بل إن زوجة والده شيرو تغرم به أيضا.
متابعة سرد الأحداث تكشف عن تنامي الخيوط السردية وتشابكها باتجاه أدهم. التمزق الذي يعاني منه كان أشبه بمرايا متصدعة انعكست في وجوه سائر الشخصيات التي لا يخلو بعضها من سماتِ التطرف أفكارا وأفعالا. وقد أنصتت الكاتبة لهذه الشخصيات في أقوالها، وتصرفاتها، وهواجسها، وحركاتها إنصاتا دقيقا جعل جهدها الوصفي للأحوال والأقوال يقترب في بعض الأحيان من التصوير السينمائي في محورية مشاهده، وفي طرائق عرضه للفاعلين في الحكاية، من حيث قُربهم أو بُعدهم من العين الرائية أو القارئة.
وإذا كانت في الوصف محاولة لإيقاف الزمن، فإن كثرته في «متعة العمر» واتسامه بالذاتية والعمق، وتوظيفه لجعل الشخصيات من لحم ودم أمام المتلقي، قد جعل من فصول الرواية لوحات فنية نافرة في تفاصيلها ومتآلفة في مضامينها، تدفعك إلى التوقف عندها كما لو أنك تستحضرها مما يمور به واقعك ويزيده مرارة.
تنقل هدى عيد في الرواية نموذجَين لنوعين من النساء اللواتي، وإن اختلفت الطرائق التي يسلكنها في العيش، فإن نواتج ذلك واحدة، هي فساد المجتمع، بل إفساده. من ذلك أن شخصية «شيرو»، تلك التي تمثل صورة المرأة البرجوازية التي تستغل عملها في المنابر الإعلامية، وتتخذ من مظهرها الفاتن شركا للإيقاع بطرائدها من الرجال، تخدع زوجها وتجعل منه ستارا لعلاقاتها الغرامية. ولعل الكاتبة باختيارها هذا النوع من النساء تُوجه نقدا لتفشي ظاهرة الإعلاميين الجدد، والمنتديات الثقافية المتهالكة التي لا هم لها سوى تصدير بائعي كلام.
أما الشخصية الثانية، «رمانة»، فتنتمي إلى طبقة فقيرة، تعيش في المخيم. وقد تم تقديمها من خلال أقوالها، ومن خلال ما قالته الشخصيات عنها، وما حكاه الراوي في شأنها بشكل يجعل القارئ يراها ماثلة أمامه، يستشعر نذالتها، وحقارتها في خيانة زوجها، بل إن القارئ وهو يتابع مجرى السرد، لا يشم رائحتها النتنة وحسب، وإنما يكاد يتقيأ، يشعر بالغثيان مما تجمعه هذه المرأة في شخصها من آفات، سلاحها المخدرات والجنس.
وفي مقابل هذه الأحوال، لا تنسى الروايةُ التوقف عند جد أدهم، ذاك الصوت العروبي الممثل لجيل عاصر زمن الوحدة العربية، وها هو اليوم يشهد تفتت العالم العربي. فقد هاله، وهو يتابع عبر شاشة التلفاز مشاهد الحرب المدمرة، ما يحدث في أقطارنا العربية، وما فيه من صدمة تركت أثرا عميقا في نفسه. كما أن إصابته بالبكم تُحيل إلى أن الصوت المعتدل خُنِق في عالمنا، لا مكان للكلمة الحرة فيه. وكأن الرواية تُخبرنا بأن الجد الصيداوي المتسامح الطيب المتعايش مع الآخرين المتقبل للرأي الآخر، إنما هو نمط من الناس نادر وعزيز في واقعنا. ولعل موته في المستشفى هو موت الاعتدال، وانتصار التعصب.
«متعة العمر» بشخصياتها وأمكنتها (صيدا، بكاسين، مارون الراس) نموذج عن ضرورة العودة إلى التعايش في الوطن الواحد الذي مزقته الصراعات والفتن، هي رواية تصر على العودة إلى حياة القرية، وقد تجلى ذلك من خلال موقف جَد أدهم لأمه حيث رابط في قريته والتصق بأهلها وناسها رغم ما يتهددها من عدوان.

القراءات 368 مرة

اترك تعليقا

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.

Image

للتحدث معنـا

عـدد الـزيارات

مجموع الزيارات للمــوقع 83371

حاليا يوجد 5 guests ضيوف على الموقع

Kubik-Rubik Joomla! Extensions