موعظة ابن الاغبر لصاحبه
حدثنا عوانة ابن الأشعث قال:
كنتُ قد ضجرتُ ذاتَ مغيب، وضاقت عليّ نفسي من بعيدٍ وقريب، فقصدتُ دار صاحبي وشيخي #حطامة_ابن_الأغبر، لعله كان للنفسِ بلسَما، وللضيقةِ متسعا، فسرتُ لهُ بخطوات العليل، ومشيت نحوهُ بالقدم الثقيل، حتى بلغتُ داره، ووصلتُ قراره.
فطرقتُ بابه مُستهاماً بفصاحته، وطلبتُ لقاءهُ مفتوناً ببلاغته، فخرجت لي زوجهُ (المكرودة بنت المظلوم)، فرحبت بي وتهلل وجهها، وأفاضت عليّ من عذبِ كلمها، وأدخلتني من بيتها أريح المقام، وأغرقتني بأعذب السلام، ثم نادت على زوجها فجاء، وسار لي سير الأصدقاءِ للأصدقاء، فعانقني عناق المشتاق، بعد أن باعد بينهما طويلُ الفراق، فجلسنا وجلست المكرودة، وكانت والله الجلسة المنشودة..
فسألته: يا ابن الأغبر، إن صدري قد ضاق عني، وإن نفسي قد فرّت مني، فاشتقتُ لقولٍ منك فأسمِعني!
فتنحنح صاحبي حطامة وقال:
ياعوانة، إعلم بأن الزمان قد ساء، وطغى على الوجوه الرياء، فأبيح غدرُ الأصدقاء، وتطبّعَ سوءُ الأقرباء، وإن يداً مددتَها بالخير لترتدنّ عليك من الفعلِ بألعنه، وإن سرّاً ائتمنتَ عليه لتجدنّهُ بين الألسنة، وإن دين الناس دينارهم، وإن قبلتَهُم أهوائُهم، أما تراني محتبياً في بيتي؟ أكلمُ لحيتي وناصيتي؟ فوالله لم يبقَ في الدنيا نديمٌ ولا خليل، وأقفرت ولم يبق بها دليل، لقد رحلت المروءة، وبانت السوءة، واشتد السجال، وتعالى الجدال، وتبدلت الطباع، وانحدرت الأوضاع، حتى لم يعد لكَ غير داركَ قرار، وليس لك سلاحٌ من الناس غير الحذار..
ياعوانة:
إنه حين تتوحش الخطوب، وتقسى القلوب، ويخشن السلوك، وتتساوى الصعاليك والملوك، فهذا ليسَ زماني وزمانُك، ولا مكاني ومكانُك، فليسَ في الناس بعد اليوم من الخُلقِ شيء، ومن الظلِّ على بعضهم فيء، لقد عظُمَت الشَينة، وتوارت الزَينة، ورُفِع التراحم والوصال، وحُكم بالشر والقِتال، واستشرت أسوأ الفعال، والناس هُم الناس، إن تجاهلتَ استضعفوك، وإن رددتَ لاموك، وبئس الرجلِ أن يتحاشاه الناس اتقاءً لشره، وتكفياً لأمره..
ياعوانة..
إنما الناسُ ثلاثة:
طيبٌ مرفوض، وسيءٌ مفروض، ومنافقٌ محظوظ، فأما الأولُ فلأنهُ صاحبُ عدلٍ يتقي الله في أمر الناس، وأما الثاني ففَرضَه شرُّهُ على الناس، وأما الثالث فخادعٌ عقولَ الناس، وإنه أشرُّهم، فهو مخادعٌ لا يؤتمن، ومراوغٌ لا يتّقى، حتى إذا بان زيفهُ وخداعهُ تمسكن تحت العقاب، وراغَ بين السؤالِ والجواب.
ياعوانة، فالزم بيتك، واحترم ذكركَ وصيتَك، وابلُغ أمركَ باتكالكَ على الله، واستغنِ به عن عبيدِه، واحمدهُ لأنهُ لم يُرِك أشر مما قد رأيت، وأفظع مما قد استوفيت، وإن أردتَ أن يتسع صدركَ فتذكر إن كان لأحدٍ حقٌ عليك، فأعد حقه، واذكر خطبة رسول الله يوم وداعه.
يقولُ عوانة: فبكيتُ حتى اهتز كتفي، ونشجتُ حتى ابتل طرفي، ولما فرغتُ قلت له:
يبن الأغبر، والله ما خسرَ الناسُ مثلكَ حين تركتَهم..
قال:
ياعوانة: دعها تقومُ على شرار الخَلق، فهي آتية، وإنما هو أمرُ ربك، ولا يظلمُ ربُكَ أحدا.
لبديع الزمان
#رسلي_المالكي
___________________________________________
معلومات إضافية
- عودة: العودة الى مقالات رسلي
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.