ذاكرة - الوردي وشريعتي في الميزان
بحدود اطلاعي ومعرفتي المتواضعة، فإن قراءة تحليلية لفكر علي الوردي، ومراجعة نقدية جادة لطروحاته، لم تتم لحد الآن، فالرجل دخل نادي المقدسات عند الكثير من القراء والباحثين والطلبة الذين باتوا يرددون بعض مقولاته الاجتماعية كما لو كانت نصوصاً مقدسة. والحقيقة أن الرجل مثله مثل أي عالم كبير متواضع، لم يكن ينظر إلى نفسه هكذا طيلة حياته، بل أنه كان كثيراً ما يعترف بالخطأ في بعض الاستنتاجات، ويعلن بشجاعة العلماء التراجع عنها.
وبعد أكثر من نصف قرن من تفتح عينيه وهو فتى بعمر 15 عاماً، على الجزء الأول من كتاب الوردي" لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث"، يعود الباحث عبد الجبار الرفاعي لقراءة كاتبه المفضل الذي انجذب مبكراً إلى عقله النقدي، وطريقة تفكيره، وواقعيته،" واهتمامُه بالمهمَّش والمهمَل واليومي في المجتمع"، قراءة جديدة فاحصة ناقدة. وكذلك كان الأمر مع علي شريعتي الذي اطلع على آثاره الصادرة بالفارسية قبل أكثر من ثلاثين عاماً. بل أن الرفاعي يعقد مقارنة بين الاثنين، موضحاً البون الشاسع بين الرجلين، فيما يتوهم الكثيرون، أن الوردي قد سار على خطى شريعتي في بعض طروحاته الدينية والسوسيولوجيَّة، وأنه قد أخذ منه بعض الآراء وتأثر بها. لكن قراءة الرفاعي الجديدة لكلا المُفَكريْن تبين بوضوح تام الفرق بينهما، ففي حين كان الوردي مثقفاً نقدياً خرج من المجتمع والأيديولوجيات السياسية، فإن شريعتي كان مثقفاً أيديولوجياً، فأعمال الوردي يسودُها "عقلانية نقدية لا تخلو من انطباعات ذاتية، وما يسود أعمالَ شريعتي التبشيرُ بأيديولوجيا الثورة".
" المثقَف النقدي غير المثقّف الأيديولوجي" وبذلك يضع الرفاعي كلاً من الوردي وشريعتي في ميزانه الفاحص، وهو لا يرغب بأن يقسو كثيراً على أول من قرأ له بدهشة القراءة الأولى، والاطلالة الأولى على عالم المدينة في الشطرة التي عاش فيها ثلاث سنوات طالباً، وفيها اكتشف عالم علي الوردي، لكنه يشير إلى افتقار الوردي إلى تكوين في الفلسفة، وعلم الكلام، وأصول الفقه، والتفسير، والحديث ،والتصوف، وغيرها من علوم الدين التراثية، يماثل خبرته الواسعة " بثقافة المجتمع العراقي وتقاليده وأعرافه وفلكلوره، وتاريخه في القرنين الأخيرين"، لذلك فإن بحثه في شخصية الفرد والمجتمع العراقي" لم يتوغل في الحَفر ليصل إلى البنى الدينية والأنساق الاعتقادية المترسخة في اللاوعي الجمعي". واذا كان شريعتي "مثقفاً رسولياً، كرّس جهوده لترحيل الدّين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا"، فإن علي الوردي كان يمثل بذرة " المثقّف الديني النقدي"، وكان أول مثقف ديني عراقي تُجهض ولادته.
لم يدخل علي الوردي في معركة مع الله.
هكذا يقرر الرفاعي في دراسته المقارنة المثيرة بين الوردي وعلي شريعتي.
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.