لا أحدَ منهم عاد بحالة طبيعية
المؤلف : د . طه جزاع
في عيد ميلادها العشرين الذي صادف الذكرى العشرين لغزو العراق، تحتفل بنين كريم المولودة في النجف الاشرف يوم 2 شباط 2003 بانتصارها على بشاعة الحرب التي حرمتها من الرعاية الصحية اللازمة لمعالجة حالتها الولادية، وعلى قساوة العوق الجسدي، وظلم الطبيعة التي دفعت بها إلى الحياة وهي مصابة بشلل الأطراف السفلى، ثم زادها القصف الأميركي بجوار منزلها قساوةً بعد أن قذفها العصف من سريرها وهي في الشهر الثاني من عمرها لتصاب في كتفها وأنحاء متفرقة من جسمها، لكنها لم تيأس حين وعت ذلك، ولم تتردد في مواصلة دراستها على كرسي متحرك، إلى جانب ممارستها التمارين لتنمية هوايتها الرياضية التي أهلتها لتكون احدى عضوات المنتخب البارالمبي العراقي لتنس الطاولة، لتفوز لاحقاً بميدالية فضية في بطولة آسيا.
بنين هي واحدة من ستة شبان عراقيين، ولدوا مع بدايات الاحتلال الأميركي للعراق، أو قبله بأشهر قليلة، هم موضوع الفيلم الأميركي الوثائقي" TURNING TWENTY أصبح عشرون "، يمثلون الجيل الجديد الذي ولد في ظروف قاسية، لكنه جيل مختلف، متشبث بالحياة وبالأمل. قدم لنا هذا الفيلم الذي صوره وأخرجه وانتجه طارق زياد لحساب مؤسسة " Vice News" لقاءات مع هؤلاء الشبان الستة، وأولهم باقر فرقان المولود بمدينة الصدر يوم 9 نيسان 2003 والذي اسعفه الحظ بعثور عائلته على قابلة مأذونة في تلك الليلة الليلاء، لكن في السنة الأولى من عمره فقد والده شهيداً بعد معركة مع جنود المارينز، مما جعله يختار منذ سنواته المبكرة العمل بدلاً عن المدرسة، لإعالة اسرته التي فقدت معيلها. أما روان سالم من بابل فقد ولدت في 12 أيلول 2002 وكان والدها يتعرض إلى ضغط الأجهزة الأمنية بسبب شقيقه المعارض، مما اضطره للخروج من العراق إلى ليبيا مع عائلته أواخر التسعينيات، حيث ولدت روان في المهجر لتعود إلى العراق طفلة بعد شهر واحد من الاحتلال، لذلك نشأت شابة معارضة وناشطة مدنية جريئة لها مناظرات ومناقشات محتدمة مع المسؤولين المحليين، كما شاركت بفعالية في انتفاضة تشرين 2019 مما عرضها إلى اعتداءات وتهديدات اجبرتها على الرحيل مع اسرتها إلى احدى محافظات كردستان. وكان من حظ صباح المولود في الحويجة بكركوك يوم 9 تشرين الثاني 2003 أن يكون واحداً من عشرات القاصرين الذين تم توقيفهم بعد طرد الجماعات الإرهابية عام 2007، وتم نقله إلى مخيم في ضواحي الموصل قبل تقديمه للقضاء مع مجموعة تضم أكثر من 120 شاباً، ليبقى فريسة القلق والخوف من انتقام أولئك الذين فقدوا أحبائهم. غير أن حكاية عبد الرحمن سعيد مختلفة تماماً، فهذا الشاب المولود في 16 حزيران 2002 بقضاء حديثة في الأنبار كان الناجي الوحيد من انفجار سيارة مفخخة أودت بحياة والده وخمسة من أبناء عمومته، فكان عليه وهو مازال بعمر 13 عاماً أن يكون مقاتلاً مع أبناء عشيرته التي تصدت للإرهابيين ولاحقتهم في الصحارى لإبعاد أذاهم عن المدينة، ومدفوعاً أيضاً برغبته الشخصية في الانتقام من قتلة والده وأبناء عمومته. أما سادس شخصيات الفيلم فهو مغني الراب العراقي خليفة أو جي، الذي حصدت احدى اغانيه مليون مشاهدة في أسبوع واحد، وانتشرت شعبيته على الانستغرام بملايين المشاهدات، فضلاً عن الاستماع إلى أغانيه من قبل شريحة واسعة من الشباب وهم يقودون سياراتهم.
يلفت هذا الفيلم الانتباه إلى تفكير جديد، وجيل جديد، هو الجيل الذي صار عمره بعمر الاحتلال، قد لا نفهمه كثيراً، لكنه يفرض طريقة تفكيره واسلوبه في الحياة، وصانع الفيلم طارق زياد هو سابع الشخصيات من هذا الجيل رغم انه متقدم عليه بعقد من الزمان، لكنه كان في الحادية عشرة من عمره حين شاهد جنود المارينز وهم يجوبون شوارع بغداد ويفتشون بيوتها بيتاً بيتاً، ثم وجد نفسه مهاجراً مع عائلته بعد تدهور الأوضاع فيها نحو الأسوأ، غير أن ذاكرته مازالت متعلقة بالوطن، وقريبة من هذا الجيل الذي جسده في فيلمه، وقد كانت لمسات مدير التصوير البرازيلي دانيال فيرجارا الذي يمتلك خبرة ثلاثين عاماً في صناعة الأفلام الوثائقية، واضحة في براعة صنع مناخ الفيلم الحسي، " الزوايا واللون والحركة "ومن دون تفريط بالثيمة الأساسية للفيلم الذي يحمل رسالة لإدانة الحرب على العراق، وإدانة الكذب والخداع والتضليل الذي مارسه السياسيون الأميركيون لتبريرها، والتخريب النفسي والحياتي للجيل العراقي الذي نشأ في سنوات الاحتلال.
حاز طارق جائزة " ايمي" الأميركية المخصصة للإنتاج التلفزيوني عن فيلم "عودة طالبان" بالاشتراك مع أربعة مدراء تصوير من الولايات المتحدة والمكسيك وأستراليا وايران، كما انتج سلسلة أفلام وثائقية بعنوان "بنات الجنة" عن النساء اللاجئات في العراق وسوريا وتركيا. وحين شاهد أحد الجنود الأمريكان فيلمه الجديد، علق بالقول: " لم يكن لدينا الحق في أن نكون هناك لإرضاء غرور بعض السياسيين الذين كذبوا علينا، لقد خسرت الكثير، وفقدت الكثير من أصدقائي بسبب الأكاذيب نفسها، فلا أحدَ من الجنود عاد من هناك وهو بحالة طبيعية".
فيما كتب جندي تم طرده من الجيش الأميركي لأنه رفض المشاركة في الحرب : " هربتُ من الجيش لأنني رفضت أن يتم ارسالي إلى العراق لقتل الناس في بلد لم يفعل لنا شيئاً أبداً، لقد اتخذتُ القرار الصحيح، والله يعلم ذلك أيضاً".
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.