شكيب كاظم .. وسقطت الورقة الأخيرة
المؤلف : د . طه جزاع
اختار الناقد الأدبي شكيب كاظم أن يرحل بصمتٍ وهدوءٍ تامّين قبل حلول عيد الفطر بيومين، وربما لم يعلم أقرب المقربين إليه بمرضه الذي لم يمهله طويلاً، فلم يكن من عادته أن يشكو أو يتذمر أمام الأصدقاء والزملاء والأقرباء، لكنه يتألم وينتفض بالقلم فحسب، بل ويصرخ حد الألم: «إن الدنيا حظوظ، فلو كان الحظ يباع لأشتريناه». وكان حظ شكيب من الدنيا أقل من القليل، غير أن الدنيا كانت محظوظة بنتاجاته الأدبية والنقدية التي ما تركت شأناً من شؤون الثقافة والأدب العراقي والعربي والعالمي، ولا اسماً مهماً في الفكر والشعر والنقد والبحث الأدبي والقصة والرواية والفن والصحافة، إلا تناولته بالقراءة الواعية، والروح النقدية الإيجابية البناءة التي انعكست فيها سمات شخصيته الفريدة بكل رصانتها وهدوئها وتهذيبها وتواضعها وخلقها الرفيع.
كان شكيب المولود في يوم مشهود هو الثامن من مايس 1945 وهو اليوم الذي وضعت فيه الحرب العالمية الثانية أوزارها، يظن انه سيلقي عصا الترحال مغادراً لوناً من الكتابة : «يصيب من يتولاه ويكتب فيه، شيء من وجع الرأس والنفس وبعض أذى»، لذلك فأنه وبعد صدور كتابه « في التراث والثقافة والأدب» عام 2005 ، أقدم في العام التالي على إصدار كتاب جديد يكون شقيقاً ورديفاً لكتابه ذاك، أسماه «المرء يلقي عصا ترحاله»، وهو يوجز الاسباب التي تدعوه لأن يلقي عصا ترحاله بالقول انها أسباب عدة: « منها ما يشبه ضمور الرغبة في الكتابة بهذا المجال، وتسلل الوهن الى الذاكرة، فضلاً عن شيوع الخطأ وفشو الغلط وفوضى الكتابة، حتى ما عاد بمكنتك متابعة هذا الطوفان «!. ولعل للرجل اسباباً اخرى، الجم نفسه عن البوح بها، وهو الباحث دوماً عن الحقيقة، أو ما يراه حقيقة بعد ان آثر الابتعاد عن ثقافة كيل الثناء والمديح التي شاعت بين أبناء جيله، لا رغبة في إثارة الضغائن والخصومات، لكن وصولاً الى الحقيقة التي جعلها الهدف الذي يرنو إليه، مثلما أعلن عن ذلك في مقدمة كتابه الذي ضم بين دفتيه عدداً من المقالات النقدية والصحفية توزعت بين الأدب والثقافة والفلسفة وتاريخ العراق المعاصر والسياسة والرسائل والذكريات، توحدها لغة رصينة، وروح متوهجة مرحة، وانتباهة ذكية، وأسلوب سهل ممتنع، يشد القراء بمختلف مستوياتهم، ويقدم لهم زاداً معرفياً شهياً على طبق من مقالب التاريخ وأعاجيب السياسة وألاعيب الأيام، وهذا هو ديدنه منذ كتابه الأول «الضفة الأولى .. مقالات في الثقافة والنقد» الذي صدر قبل أكثر من 22 عاماً. وخلال عقدين من الزمان، كرس شكيب حياته وقلمه وفكره لإصدارات متلاحقة كان يطبع أغلبها على حسابه الخاص، متعجلاً في خدمة الفكر والثقافة وكأنه يخشى انقضاء العمر قبل أن يؤدي رسالته التنويرية، وهذا ما حدث حين ودع الدنيا بعد أشهر من صدور كتابه «قبل الورقة الأخيرة» عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب والذي ضم نحو تسعين مقالاً في مختلف شؤون التاريخ العراقي الحديث والثقافة والأدب والسياسة، وغاب وهو ينتظر صدور كتاب جديد له دفعه إلى الطبع، غير أن ورقته الأخيرة سقطت على حين غرة حين باغته الموت متعجلاً.
أنجز شكيب كاظم مقالات عديدة عن التراث حين يكون مرجعاً وملهماً، مثلما كتب في علوم القراءات القرآنية، وكان غزير الكتابة والتأليف والنشر في مواضيع النقد والأدب والإبداع، وتتبع الحركة الثقافية، مثيراً قضايا مهمة حول ظواهر ثقافية قديمة، من دون أن يمنعه ذلك من مواكبة الإصدارات والأسماء المعاصرة وبالأخص في مجال السرد والرواية العالمية، وحين يكون منشغلاً بكتاب الشعر الجاهلي لطه حسين، أو بشخصيات أدبية واجتماعية وسياسية مثل المعري والرصافي والجواهري وكوركيس عواد وإبراهيم الوائلي وبهجت العطية ونجيب المانع وبلقيس شرارة وكامل الجادرجي وصفاء خلوصي وجيمس جويس، فإنه يكتب أيضاً عن جبرا إبراهيم جبرا ولطفية الدليمي وحسب الله يحيى وإلهام عبد الكريم ويوسف زيدان، وعن رواية «بيدرو بيرامو» للروائي المكسيكي خوان رولفو التي يصفها بأنها رواية غرائبية عسيرة الفهم ذات لمحات إنسانية.. ومن طريف آرائه أن الخمسة الكبار خلال القرن العشرين من الشعراء والنقاد والفنانين العراقيين هم الجواهري «متنبي زماننا الذي انتظرناه ألف عام»، والسياب الذي كان «مؤثراً وجريئاً ومبتكراً»، وعلي جواد الطاهر في النقد الأدبي، وجواد سليم في الفن التشكيلي، وفؤاد التكرلي في الرواية، وهو يدخل نازك الملائكة مرة إلى هؤلاء الكبار، ويخرجها في الوقت نفسه، فهي مؤثرة ويمكن أن تكون ضمنهم، لكنه يخرجها لأنها «نكصت وصمتت» منذ كتابها « قضايا الشعر المعاصر» الذي صدر بداية الستينيات.
لشكيب كاظم الناقد والإنسان قلقه تجاه مسار الحرية التي يكبلها الخوف المضاعف من تسلط المجتمع المنفلت في بلادنا، فضلاً عن نظرته المتشائمة تجاه عالمنا اليوم، فهو عالم: «سادر في غيه، راكض وراء متطلبات الجسد فقط، بعد أن تخلى عن روحانياته»، وربما بسبب ذلك القلق، وتلك النظرة، فإنه كان زاهداً بالحياة، مترفعاً تجاه مادياتها، معتزلاً ملذاتها، متعففاً عن نيل مغانمها، منكفئاً عن صخبها، ومعتكفاً في محراب القراءة والكتابة حتى سقوط الورقة الأخيرة من شجرة حياته.
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.