حدّثنا عوانة ابن الأشعث قال:

كنتُ أسيرُ ذات يومٍ ببغداد، وقد اتشحت كعادتها بالسواد، واكتظت بالعباد، فرأيتُ جمعاً من الناس متحلقين، وعلى رجلٍ بوسطهم متجمهرين، فغالبني الفضول لمعرفة ما يجمعهم، وما يقالُ فيُسمعَهُم، وكان الرجلُ بوسطهم قد اعتلى منصةً من خشب، ولثّم وجهه كتلثام الرَطَب، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال:

فيا أيها الناس، إن الوطنَ لبدعة، وإن الدين لصنعة، وإن النفاق ليعلو بالمرءِ لعُليا الرُتب، وإن الصدقَ ليهوي به لما دون الرُكَب، وإن امرئٍ كاذبٍ واشٍ منافقٍ ليعيشنَّ في هذا الزمان، وإن امرءٍ صادقٍ مستقيمٍ معتدلٍ لن يجد لهُ مكان، فتختموا بأيديكم ليرونكم وقد علا في أيديكم الدين، واختموا جباهكم ليرونكم من المصلين، ولا تصلون إلا أمام الناس فتفلحوا، ولا تقوموا ليلكم إلا لمراءاةٍ فتربحوا، وسيروا مع الجمع جاهلين بما ساروا إليه، وامشوا معهم غير عارفين بما مشوا نحوه، واتركوا عنكم التفكر فإنه مدعاةٌ لضيقة النفس، وخذوا أمركم من غيركم فإنه مرضاةٌ لسعةِ الخُلق، ولا تبنوا ولا تدبروا ولا تتعبوا ولا تفكروا، وانتظروا يوم يأتيكم حفيدٌ من أحفادي يقوّمُ لكم أمركم، ويُحسن لكم أوضاعكم، فاتكئوا ولا تتعبوا، وخربوا ولا تعمروا.

فسأل الناس: ومتى يأتي أيها الرجل؟
قال: إذا اصطفّت الصبّات، وضاع الجيش بين الميليشيات، وتقاربت أزمان الاستعراضات، وأكثر الجبان التهديدات، وحكمت الوجوه الشنيعة، وارتقت النفوس الوضيعة، وانتشر المجون، وتسيّد المأبون، وتباكيتم على الفقير، وسرقتم منه الشاة والبعير، وارتميتم لحضن العجم، وارتضيتم بدخان الوهم، وسرتم بلا ألباب، وتفاخرتم بالعشيرة والألقاب، واحتقرتم القانون، وجاء بتصويتكم الخائنون، ثم قال:
فمن أراد أن يكون مع حفيدي فليلقي دينارهُ في كيسي هذا.

يقول عوانة: فرمى الناس دنانيرهم في كيسه حتى امتلأ، ثم فرش رداءه حتى فاض، وملأوا جيوبه حتى ثقلت، وعمامته حتى هدّلت، ثم ركب بغلةً له وتركهم ومشى..
فقلت لألحقنّ به والله، ففعلت، وحين اقتربت منه قلت:
أما خبّرتني أمرك؟ ليزيل العجب، وأعرف الداهية بين العرب؟
فأماط اللثام عن وجهه وإذا به والله شيخي حطامة ابن الأغبر البغدادي، قلت: لم فعلت هذا؟
قال:

خدّر رؤوسَ الغفلةِ..
بالقولِ أو بقنادرِ..
واربح دنانير الذهب..
من جيبِ كُلِّ قشامرِ..

لبديع الزمان
#رسلي_المالكي

___________________________________________