سنوات نزار قباني في الصين
المؤلف : د . طه جزاع
كانت الأيام الماضية هي أيام الأسود والأبيض، ومعرض العراق الدولي للكتاب لهذا العام بالأسود والأبيض، فيما ظهرت سيدته التي تديره من وراء الكواليس بلا ضجة، بالأسود من دون الأبيض، وتدخل الصحفية والروائية العراقية المغتربة جسداً «إنعام كجه جي» الميدان مع أهل الفيسبوك فتنشر صورة جميلة من أيام الأسود والأبيض لنجاة الصغيرة ونزار قباني، صورة ولا أجمل، يتصفحان جريدة ويضحكان بعمق. بعض المعلقين على الصورة لاحظوا أن نزار يظهر بشاربين غير حليقين، وهم يعتقدون أنه بلا شاربين في أي مرحلة من مراحل حياته، لذلك شكّوا في شخصية الرجل الظاهر في الصورة. لكن الذين يهتمون بنزار لم تفاجئهم الصورة قط، فالرجل كان بشاربين خفيفين لطيفين في بداية حياته الشعرية والدبلوماسية، ويوم التقى نجاة في القاهرة كان قادماً من بكين.
ولأني من المهتمين بالصين، لم أنشغل بشاربي الشاعر أيام الأسود والأبيض، لكن الصورة نبهتني إلى العامين اللذين قضاهما قباني دبلوماسياً في العاصمة الصينية، وهما من الأعوام الغامضة في حياته، حيث لا ذكرى ولا ذكريات، ولا قصيدة ولا امرأة، ولا مقال نثري من نثرياته المعروفة. أيعقل أن شاعراً مثل قباني يمر بمثل هذه التجربة الغنية في بلاد جميلة واسعة بعيدة، من دون أي أثر شعري أو نثري أو حتى إنساني؟. ماذا كان يفعل الرجل في الصين، هل اكتفى بعمله الروتيني سكرتيراً ثانياً في السفارة السورية أيام الوحدة الاندماجية مع مصر 1958- 1960 ؟. لم يأتِ ذكر الصين في شعره إلا في مواضع قليلة وربما نادرة، منها ما جاء في قصيدة الرجل الثاني: ألا تقولينَ.. ما أخبارُها سُفُني؟ / أنا المسافرُ في عينيكِ دونَ هُدى / حملتُ من طيَّبات «الصين» قافلةً / وجئتُ أطعمُ عُصفُورينِ قد رقدا. أو ما جاء من مبالغاته في كتاب الحب: حين أكون عاشقاً / أجعل شاه الفرس من رعيتي / وأخضع «الصين» لصولجاني. ومنها أيضاً زيديني عشقاً: وجعي يمتد كبقعة زيت من بيروت إلى «الصين»، والتي غناها كاظم الساهر واشتهرت بكلماتها الجديدة: وجعي يمتد كسرب حَمامٍ من بغداد إلى « الصين».
يقول نزار عن تجربته الصينية: « انني أظلم الصين إذا تحدثت عنها كشاعر، واطوّق عنقها بالزهر، كتجربة من أعظم تجارب البشرية، إذا نظرت إليها كمثقف. من زاوية الشعر، ظلت الصين خارج مرمى حواسيّ الخمسة، ولم أستطع – بسبب طبيعة النظام وقسوة القيود المفروضة على الدبلوماسيين – أن اتواصل مع الإنسان الصيني، وأدخل في أي نوع من أنواع الحوار معه. إن جدار الصين الكبير، ليس جداراً تاريخياً، أو رمزياً ولكنه جدار حقيقي لا يسمح لغير الصينيين باختراقه». وهذا مما يدونه قباني في كتابه النثري « قصتي مع الشعر» الذي يوضح فيه ان زهور الشحوب تفتحت في الصين على دفاتره وكبرت حتى صارت أوراقه غابة من الدمع : « وهذه الايقاعات الرمادية، تُسمع بوضوح في قصيدتين من أكثر قصائدي شحوباً، وهما «نهر الأحزان» و «ثلاث بطاقات من آسيا». كما يشير إلى أن مولد الحزن والانطوائية التي غرق فيها عامين كاملين في الصين ساعدته على «تقمّص جسد امرأة شرقيّة، محاصرة بأسوار التاريخ، وعصبيّات الجاهلية، وسكاكين القبيلة. وكان من آثار هذا التقمّص الدراماتيكي العجيب، كتابي «يوميات امرأة لا مبالية» الذي طبع في بيروت عام 1968 أي بعد عشر سنوات من كتابته» .
عموماً فإن الصين التي يتحدث عنها قباني بكآبة قاتمة وحزن وسوداوية هي صين نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، أيام المجاعة الكبرى والقيود الصارمة المفروضة على الصينيين وعلى الأجانب والبعثات الدبلوماسية، وهي غير الصين التي بدأت بعد منتصف السبعينيات عهد الإصلاح والانفتاح بقيادة زعيمها التاريخي دينغ شياو بينغ، فقد كان من سوء حظ البلاد أن يتعرف عليها شاعر مرهف الأحاسيس مثل قباني في سنواتها العجاف وتترك لديه مثل هذا الانطباع السلبي: «حصادي الشعري في الصين كان قليلاً، وعطائي فيها كان نوعاً من الاستقاء من المياه الجوفيَّة للذاكرة الشعرية. اللون الطاغي على «المرحلة الصينية» من حياتي هو اللون الأصفر، إن الأصفر لون عميق وهادئ ومتحضّر. وفي هذا الزواج بين اللون الأصفر وبين نفسي، وُلد طفل جميل اسمه الحزن».
صورة نزار ونجاة بالأسود والأبيض، حسم المعلومة التاريخية بشأنها الكاتب والباحث الموسيقي المصري كريم جمال مؤلف كتاب» أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي» حين علق قائلاً: « الصورة في يوليو 1960 عندما قدم نزار قباني للقاهرة من العاصمة الصينية بكين حيث كان يعمل بالسفارة السورية هناك، وذلك للاحتفال بقصيدة أيظن مع نجاة وعبد الوهاب بعد النجاح الهائل للقصيدة».
عرفَ نزار قباني الصين أيام « الأسود والأبيض»، و» كتبَ الروادُ لنا المشهد، أيام الأسود والأبيض»، مثلما يقول الإعلان الترويجي لمعرض الكتاب الذي وضع كلماته الشاعر كريم العراقي - موجوعاً ملتاعاً مريضاً بغربته - بالأسود والأبيض!.
اترك تعليقا
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة ، المشار إليها بعلامة النجمة (*). كود HTML غير مسموح به.